وهذا كله نلمح فيه مشابهة مما حوته قصيدة المتنبي الميمية في عتاب سيف الدولة على بعد ما بين الشاعريتين ونلمح فيه مشابهة من تزاحم الشعراء هنا كتزاحمهم هناك ويسترسل الكاظمي بهذا وأمثاله إلى أن يصل إلى هذا الاعتراف الطريف:
بعناكم دينا لنشري منكم * دنيا فلا الدنيا ولا الايمان ثم يوغل في الاعتراف مقرا أن فيما كان فيه من نظم المديح هو خيانة:
ها جزاء الطامعين بأنهم * خانت بهم أوهامهم إذ خانوا ثم يتعجب من ضياع مثله عند مثل حمد:
ويضيع مثلي عند مثلك إن ذا * أمر تضل بمثله الأذهان وبعد أن يصل إلى هذا الحد يوقن أنه لا يستطيع أن يعيش دون ممدوح جديد، فيتلفت إلى خصم حمد مشيرا إليه إشارة صريحة، معلنا أن أمله سيتحقق به وحده:
ما شد ضبعي في الورى إلا الذي * قد شق نبعة دوحه سلمان وكنا قد أشرنا من قبل إلى القصيدة التي استعطف بها شاعرنا ممدوحه حمد وطلب عفوه وقلنا أيمكن أن يكون غضب حمد عليه لأن الشاعر قد ناصر الحركة الشعبية التي استهدفت حمدا، أو ناصر الحاكم الجديد الذي خلف حمدا؟ وإننا نتساءل هنا: هل كانت قصيدة الاستعطاف التي أشرنا إليها، نتيجة لغضب حمد من هذه القصيدة النونية؟ أم أن تلك القصيدة كانت نتيجة حادث آخر؟...
أكبر الظن أن القصيدة الدالية بعيدة عن موضوع هذه القصيدة وأن تلك كانت نتيجة غضب شديد من حمد على شاعره، غضب مبعثه شئ أهم من هذا العتاب في هذه القصيدة.
وقد جاء في ترجمة الكاظمي في أعيان الشيعة أبيات ذكر في تقديمها أنه يمدح بها بعض الأمراء ويعرض بذم غيره. وقد جاء هذا الذم قاسيا عنيفا يدل على قطيعة كاملة من الشاعر لهذا الأمير المذموم:
إن كنت والناس في الناسوت متحدا * فالعود والعود ذا ند وذا حطب وبعد عدة أبيات في المدح والتعريض يقول:
لا قرب الله رذلا كله حمق * وباعد الله نذلا كله كذب وهكذا نرى أن الهجاء عاد شتما فظيعا، فمن هو الأمير الذي قيل فيه هذا القول؟ إن الذين رووا هذا الشعر لم يذكروا اسم الأمير المعرض به، فهل يمكن أن يكون هو حمد؟ أيمكن أن يكون الأمر قد وصل بين حمد وبين شاعره إلى هذا الحد؟.
إن القرائن تدل على ذلك، وإذا صح هذا فإنه لأمر مؤسف حقا أن تصل العلائق بين الرجلين إلى أن يصبح الممدوح القديم مذموما بمثل هذا الذم القبيح، وبذلك تتباعد الفرجة بين متنبي سيف الدولة الذي ظل مقدرا لأميره ذاكرا له بالخير، وكل ما وصل إليه معه هو عتاب بسيط وتعريض طفيف، وبين متنبي حمد الذي عاد الآن حمد على لسانه عودا من الحطب أحمق نذلا كذابا، بعد أن كان:
في عدل كسرى في شجاعة رستم * في جود حاتم في ذكاء لبيد وهذا البيت من القصيدة الدالية التي أشرنا إليها من قبل والتي قالها مستعطفا لحمد مستشفعا لديه بالسيد علي الأمين:
وشفيع ذنبي عين آل محمد * أعني عليا كهف كل طريد فهل يمكن أن تكون الوساطة قد فشلت ولم يفد الاعتذار والاستعطاف فيئس الشاعر واشتط بالهجاء وغالى؟.
وفي هذه القصيدة يبدو واضحا ما ذكرناه من قبل من أن جوهر المدح في عصر حمد كان ذكر الوقائع والحروب والتغني بالانتصارات والفتوح:
لمديح من عقد اللواء على الولاء * له الزمان وقد مشى بجنود في بيض مرهفة وسود وقائع * ونفوذ رأي في الزمان سديد لم تثنه نار الكفاح عن الندى * كلا ولا عن عزمه بصدود يعطي ويلقى والعداة كأنها * وفد العفاة ولات حين وفود متبسما عند الكفاح وسيفه * يذري العقيق على خدود البيد فالقصب تركع بالحني على الشوى * والهام خاضعة له بسجود على أنه وبعد وفاة حمد رأينا الشاعر يصبح شاعر ابن أخيه وخليفته علي بك الأسعد فيهنئه بتوليه بعد عمه.
الكاظمي وجبل عامل قلنا إن الكاظمي عراقي الأصل ولكنه استقر في جبل عامل وتفتحت شاعريته فيه ولا تزال سلالته فيه حتى اليوم كما أن له نسلا في مصر، وقد كانت تنتابه نوبات قلق وملل فيصب جام غضبه على جبل عامل هاجيا ناقما فإذا هدأ عاد مادحا مثنيا. ثم هو أحيانا بين بين لا يهجو ولا يمدح بل يتشوق إلى العراق ويحن إليه:
أهيل الكرخ لي قلب معنى * أسير في يد الأشواق عاني أمن حق المروءة أن جعلتم * من الأحلام أيام التداني أما في نقمته وغضبه فينسى كل ما ناله في جبل عامل من خير ولا يرى إلا الشر فينطلق في هجائه صاخبا عنيفا فهو أولا يذم الهجرة ويرى أن تركه العراق كان بطرا:
أشكو إلى الله ما لاقيت من زمني * حالا تفرق بين الجفن والوسن لفظت عزمي بأطراف النوى بطرا * فرحت ألطم وجه الربح بالغبن ثم يشير إلى أن أسوأ ما كان في تلك الهجرة أنها أقرته في جبل عامل:
حتى استقر النوى في أرض عاملة * فخيرتني بين الذل والشجن ثم يسترسل في الغضب والنقمة معددا بعض القرى العاملية التي حل بها متهكما ساخرا:
كأنما حين قام العيس يصدع بي * نشز الآكام وطي المهمة الحزن كنت المشوق لقانا أم جوية أم * لدير قانون لا حيا بها سكني ثم يسترسل بالتهكم والسخرية مختارا أبسط المآكل القروية العاملية لتكون مثالا عن شظف العيش الذي هو فيه:
أكنت قبل النوى أشتاق ترمسها * أم قادني الشوق للبلوط والشعن أم للبلية لا بلت لها غلل * أم بقلة الفول عنها كنت غير غني أم كان قد مر بي دهر فعودني * بربورة طبخت بالماء واللبن