حضرت فكنت في بصري مقيما * وغبت فكنت في وسط الفؤاد وما شطت بنا دار ولكن * نقلت من السواد إلى السواد وحسبهما دلالة على شاعرية صاحبهما.
تبنين وكانت تبنين قاعدة حكمه، وفيها ملتقى وفاده، وكان قد جدد بناء قلعتها، هذه القلعة التي شهدت أزهى أمجادها أيام سلفه الشيخ ناصيف النصار، ثم حال الزمن بعد استشهاد ناصيف وزالت عن مكانتها حتى أتاها حمد فأعلى بنيانها وأعاد رونقها وجعلها قصرا منيفا هو أشبه ما يكون بالبلاط الملكي برجاله وشعرائه وبطشه واعتداده.
وكان للشعر نصيب في تجديد القلعة إذ أشار الشعر إلى ماضيها وأرخ تجديدها في أبيات وجدت في بعض المخطوطات العاملية دون أن يعرف ناظمها، وهي مثال لشعر التاريخ في ذلك العصر، جاء فيها:
حصن تبنين رفيع شامخ * شاده بالعز غوث المسلمين ذاك ناصيف ملاذ الملتجي * مامن الخائف غيث المعتفين وبه نالت فخارا عامل * ذكره باق لها في الآخرين ما الذي حل بها من بعده * ودهاها من فعال الجائرين جدد اليوم لها الفخر فتى * عود السيف على قطع الوتين دارة البدر لقد جددها * حمد القوم لأمن الخائفين مربعا للعز قد شاد لنا * ناصر الاسلام غوث العالمين يا لها من قلعة تاريخها * تبنين برج السعد حصن المؤمنين لون من الشعر وشعر التاريخ هو في الأغلب متكلف غير مطبوع، وقد زاد على ذلك بيت التاريخ في هذه القطعة أنه جاء خارجا عن الوزن بزيادة الباء والنون في كلمة تبنين، وذلك ليستقيم التاريخ فيأتي مطابقا لسنة البناء 1258 هجرية. ونحن حين ننشر هذه القطعة إنما ندل على فن من فنون الشعر كان مما تعاطاه شعراء حمد، ونقدم أنموذجا من اللون الشعري في ذلك العهد كما نستخلص منه المرارة التي ظل يحسها العامليون طوال العهود مما جناه أحمد باشا الجزار على بلادهم، وكان منه تهديم القلعة واستشهاد صاحبها، على يد من وصفهم الشاعر بالجائرين. ولذلك لم يستطع الشاعر المؤرخ، وهو يبتهج بتجديد القلعة ويهنئ مجددها إلا أن يتذكر ما نال بلاده ومنها القلعة من الجور، وإلا أن يشير إلى ما كانت عليه بلاده من المنعة والاعتزاز قبل ذلك، فأصر على أن يقرن إشادة ناصيف لها بكلمة العز ثم على أن يشير إلى الصفة البارزة في حمد وهي قطع الوتين بالسيف.
والأبيات بمجموعها ترينا الروح التي كانت سائدة في بلاط حمد من تباه بالماضي. تباه ممزوج بالحسرة على ما عاد إليه ذلك الماضي، ثم عودة إلى التباهي بالحاضر الذي يجدد ما انهدم من الحصون، ويجرد ما انغمد من السيوف.
طرائق الشعر في هذا العصر وليست هذه الأبيات وحدها هي التي ترينا ذلك بل أن الكثير من الشعر الذي نظم يومذاك يرينا عين الأمر، ويرينا كيف أصبحت تبنين مرمى الأبصار، ومنتجع الآمال، فهذا الشيخ صليبي الواكد شاعرنا الذي مر ذكره يرسل إلى حمد أبياتا هي في الواقع الصورة الواضحة لاحساس الناس ومظاهر الحياة، بعد أن امتشق الجبل السيف وخاض المعارك وانتصر، وبنى حاكمه أمره على القوة العسكرية والسلاح الحربي، فغدا ذلك هو موضوع المدح، وهو المآثر التي تذكر للممدوح.
جد المسير إلى تبنين تلق بها * شهما إلى ذروة العيوق مرقاه قد أصبحت من نداه روضة وغدت * حصنا مكينا وعين الله ترعاه ربيعها حمد المنهل من يده * غيث لو الزمن استسقاه رواه مولى له خضعت هام الملوك وقد * ساس الأمور فأضحت طوع يمناه ليث براثنه البيض الرقاق ومن * يلقى الألوف فتخشى هول لقياه فاسلم بعز ومجد غير منقطع * مليك فضل وشكر من رعاياه فالحديث في هذا الشعر هو عن الحصن المكين وخضوع هام الملوك والبيض الرقاق ولقيا الألوف وإقامة عمود المجد.
مضافا إلى الحديث عن الندى الذي لا بد منه لمن كانت له مثل هذه المواقف. ثم ذكر كلمة مليك في آخر الأبيات موصوفا بها حمد.
هذي هي روح شعر المدح في معظم شعراء حمد كما سنرى فيما بعد، وهذه مظاهر الشعور في ذلك العهد.
على أننا لا بد لنا من التساؤل عن الحقيقة فيما جاء في البيت الأخير من شكر الرعايا لهذا المليك.
والحقيقة التي لا شك فيها أن حمدا قد استحق أول الأمر شكر الرعايا فعلا، بما حققه لهم من إزاحة ذلك الكابوس الذي سامهم من الضيم ما لم يتعودوا... ولكن إلى متى استمر ذلك الشكر...؟
حركة شعبية هذا ما تجيب عليه الأحداث التي توالت بعد ذلك، فيبدو أن حمدا، وقد انتصر فيما أقدم عليه، ثم تعزز بتعيين الدولة له حاكما مطلقا على الجبل ووقوفها من ورائه تسنده وتؤيده ثم بالتفاف الناس حوله وابتهاجهم بما فعل.
يبدو أن حمدا وقد حاز كل ذلك، راح ينطلق فيما يجر إليه هذا التفرد بالسلطة والتملك للقوة، فمال إلى الطغيان والاستهتار بالشعب والعبث فيه. ويبدو أن الشعب أو الرعايا كما عبر عنهم أبو واكد لم يتحملوا ذلك، كما يبدو أن الحملة المصرية بما رافقها من تنبه الشعور العام وما صاحبها من تغلغل أفكار جديدة وأساليب حديثة لم يكن للبلاد عهد بها من قبل، يبدو أن ذلك قد ساعد على عدم التحمل، فقامت حركة شعبية هي الأولى من نوعها في جبل عامل تنادي بالتخلص مما يجري، وتجمع الناس بقيادة الحاج قاسم الزين وألفوا وفدا ضخما قصد إلى بيروت وحملوا معهم دلائل من الزروع المتلوفة بفعل إقدام الصيادين من الحكام وقابلوا والي ولاية الشام الذي كان قد حضر إلى بيروت وشكوا له ما يلقى الناس من المتسلطين. ويورد أحد المؤرخين العامليين شكواهم بهذه العبارات: شكوا لوالي الشام حينما حضر إلى بيروت من حمد البيك وقالوا إن العشائر وعلى رأسهم حمد البيك فضلا عن ظلمهم وتعديهم على الفقراء والفلاحين قد أتلفوا المزروعات بالصيد والقنص. وحملوا معهم شيئا من الزرع المتلف وأروا الوالي إياه.