ولولا ضريح أنت فيه موسد * لما اخترت غير الشام أرضي من بدل ولا كنت عن أرض النحارير نائيا * ولا عن بني حيان ما ساعد الأجل ويظل في حنينه ووجده لا إلى جبل عامل وحده، ولا إلى بني حيان وحدها، بل إلى بلاد الشام كلها، فهو يحييها من ذلك المنتأى البعيد، ولكن التحية الكبرى لبني حيان تارة وللنحارير تارة أخرى.
حييت يا شام من شام ومن سكن * ولا تعداك جون المزن يا وطني وإن أكن قاطنا أرض العراق ففي * أرض النحارير لي قلب بلا بدن ويقول في ختام قصيدة معتزا بالشام كلها وبالنحارير منها بخاصة:
محمد الحيان ناظم درها * لها الشام ورد والنحارير مصدر ومن حق بني حيان أن نقول إنها لم تخرج الشيخ محمد الحياني وحده، بل أخرجت في أوائل القرن الحادي عشر عالما شاعرا آخر اسمه أيضا الشيخ محمد، ولكنه لم ينا بعيدا عن بني حيان، وكان أقصى مكان رحل إليه في اغترابه هو بعلبك لذلك لم ينظم شيئا في ني حيان، بل حفظت له بعض المجاميع مثل قوله:
آل بيت النبي يا عنصر المجد وشمس الفخار والأنساب يا كرام النفوس والأصل والفرع وبيض الوجوه والأحساب ومن القرن الحادي عشر وفي القرن الحادي عشر يطلع جبل عامل شاعرا عبقريا محلقا، لا عيب فيه إلا أن شعره فقد فلم يصلنا منه إلا بقايا، هذا الشاعر هو محمد محمود المشغري المتوفى سنة 1090 ه هذا الذي لو أدرك عصور العرب الزاهية لكان في تاريخها نظيرا لأكفأ الشعراء وأكثرهم إجادة وتفوقا.
وقد اضطر هذا الشاعر لأن يهجر الجبل بحثا عن العيش، فمضى حتى حط به السير في رباع الحجاز في ظلال البيت العتيق بمكة حيث احتضنه أشرابها فعاش فيهم وسكن بينهم بعيدا عن أهله ووطنه.
من القرن الثاني عشر إلى القرن الثالث عشر وفي أواخر القرن الثاني عشر إلى أوائل القرن الثالث عشر تكون النهضة الشعرية في جبل عامل قد تكاملت فتفتحت عن مجموعة من الشعراء الأفذاذ عاشوا أحداث بلادهم بشعرهم وشعورهم فكانوا لسانها الناطق وضميرها الحي وذهنها الوقاد.
الشيخ إبراهيم الحاريصي وحسبنا منهم ابن قرية حاريص، الشيخ إبراهيم الحاريصي المتوفى سنة 1185 ه والذي كان أحد أعلام ذلك العهد، وقد أصر في إحدى قصائده على أن يشير إلى قريته الحبيبة وإلى القرية الأخرى التي درس فيها فقال هذا البيت من قصيدة:
فتى حاريص مغناه ولكن * تلقى العلم وفرا من جويا للوقائع العسكرية التي خاضها العامليون كقوله:
شوس تمد من السيوف قصارها * يوم الوغى ومن الرماح طوالها تجفو لدى كسب الثنا أرواحها * وتعاف في نيل المنى أموالها تهوي بها نحو الطراد سوابق * تخذت غبار الدارعين جلالها ما أطلقت في غارة ثم انثنت * إلا وبلغت المنى أبطالها وافى بها في يوم تربيخا وقد * جاست خيول الدارعين خلالها طافوا عليها بالصوارم والقنا * فكأنهم قطع الغمام حيالها جافت جفون كماتنا طيب الكرى * فيها وعافت عذبها وزلالها ألقت على ابن العظم كل عظيمة * فرأى أشد نكاية ما نالها ومن هذه الوقائع ومن تلك الروح العسكرية التي كانت تهيمن على البلاد في تلك العهود يستمد حكمته الآتية:
بالسيف يفتح كل باب موصد * وبه من العليا بلوع المقصد من لم يكن بين الورى ذا صارم * فهو البعيد عن الفخار السرمد فإذا بدت لك حاجة فاستقضها * بغرار ماضي الشفرتين مهند ومن ذلك قوله في مطلع قصيدة:
جرد من العزم سيفا واركب الحذرا * واجعل فؤادك في يوم الوغى حجرا ويمضي على هذا النحو في قصيدته غير رفيق ولا مشفق، داعيا إلى القوة مبشرا بالسلاح محذرا من الضعف واللين:
وغالب الخصم لا تشفق عليه * ولا تركن إليه فلا يعفو إذا قدرا من لا حسام له لا يرتقي شرفا * وليس يدرك في حاجاته وطرا ونحن حين ندرس الظرف التي نظم فيه هذا الشعر ندرك العوامل التي أوحت للشاعر بما أوحت، فقد كان العامليون في ذلك الحين على سلاحهم ليلهم ونهارهم، لا يعرفون متى تدهمهم النوازل وتحدق بهم الكوارث ولقد خاضوا يومذاك أشد معاركهم عنفا وأروعها نتائج. وهكذا رأينا الشيخ إبراهيم الحاريصي يخرج عما ألفه الشعراء التقليديون من افتتاح قصائدهم دائما بالغزل، يخرج في الكثير من قصائده على ذلك الأسلوب فيفتتح بمثل ما رأينا في قصيدته الدالية المتقدم بعضها، وفي قصيدته الرائية هذه، وكذلك في غيرهما.
ومن خصائصه ما نظمه في بعض مواقع بلاده كقلعة الشقيف التي كان يحكمها ممدوحه الشيخ علي الفارس:
ما الشقيف الصلد إلا جنة * ولنا قصر بأعلاه استنار ليس يدنو منه في عظم البنا * قصر غمدان ولا عظم الجدار تنظر المرآة فيه فترى * فوقك النهر تراءى بانحدار ما رأينا قبل هذا جدولا * فوق قصر شامخ في الجو طار الشيخ إبراهيم يحيى ويأتي بعده بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الشيخ إبراهيم يحيى 1154 ه 1214 ابن قرية الطيبة وتكون البلاد على ما هي عليه من روح عسكرية حماسية ويكون هو كما كان الحاريصي وثيق الصلة بأمراء البلاد وله كالحاريصي فيهم المدائح العديدة، ولكننا لا نلمح في أكثر مطالع