بلقب الشيخ المفيد توفي في بغداد فتجاوبت بصدى وفاته ديار العرب فقال عبد المحسن يرثيه من قصيدة طويلة:
يطلب المفيد بعدك والأسماء * تمضي فكيف تبقى المعاني فجعة أصبحت تبلغ أهل الشام * صوت العويل من بغدان ومن شعره الدال على ظروف حياته ما جاء في مدحه لعلي بن الحسين المغربي والد الوزير أبي القاسم. فان هذا الشاعر الصوري كان كغيره من الشعراء يتصدى للمدح كسبا للعيش ولم تكن ظروفه كلها مواتية، فكانت تكسد بضاعته عند من لا يعرف قيمتها فيعيش في كابة وهم وفقر فقال يصف هذه الحالة:
ونوائب أظهرن أيامي * إلي بصورتين سودنها وأطلنها * فرأيت يوما ليلتين ثم يقول ذاكرا أنه لطول عهده بالنقود صار لا يميز الذهب من الفضة ولا يعرف حقيقتهما:
هل بعد ذلك من * يعرفني النضار من اللجين فلقد جهلتهما لبعد * العهد بينهما وبيني متكسبا بالشعر يا * بئس الصناعة باليدين لم تنطفئ جذوة الشعر ولم تنطفئ جذوة الشعر العاملي حتى في عهد الاحتلال الصليبي فان قصيدة ابن الحسام العاملي في رثاء أبي القاسم بن الحسين العود الأسدي المتوفى سنة 679 نظمت خلال الاحتلال.
طلائع النهضة الشعرية بعد الاحتلال أما بعد الجلاء فيمكننا أن نعتبر أن الشهيد الأول محمد بن مكي هو مؤسس النهضتين العلمية والأدبية، ولقد كان إلى جانب مكانته العلمية على شاعرية حسنة ينظم الأبيات والبيتين. فنحن نستطيع أن نعد شعره من أوائل النتاج العاملي الذي وصلنا بعد جلاء الصليبيين، فمن ذلك قوله:
كنت قبل الهوى حليف المعالي * ولأعلامها علي خفوق نقصتني زيادة الحب حتى * أدركاني المريخ والعيوق وينسب إليه قوله:
شغلنا بكسب العلم عن طلب الغنى * كما شغلوا عن مطلب العلم بالوفر فصار لهم حظ من الجهل والغنى * وصار لنا حظ من العلم والفقر وقوله:
غنينا بنا عن كل من لا يريدنا * وإن كثرت أوصافه ونعوته ومن صد عنا حسبه الصد والجفا * ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته ويمكننا اعتبار هذا الشعر وأمثاله من شعر الشهيد طلائع نهضة شعرية أخذت تنمو وتتقدم بتقدم المدارس وتكاثر العلماء والطلاب.
فضل الشهيد الأول والواقع أن هذا الرجل كان له من الفضل على الجبل ما لا يحد بحد، فقد خرجت البلاد من وطأة الاحتلال مهيضة الجناح مهشمة القوى، ولئن استطاعت أن تحتفظ بعروبتها وإسلامها ومقوماتها واستمرار التعليم فيها، فإنها لم تستطع أن تصل بذلك إلى ما كانت تطمح إليه. لهذا رأينا أن الأربع والأربعين سنة التي سبقت ولادة الشهيد، لم تستطع أن تخرج عالما كبيرا مشهورا، بل كانت هذه السنون سنين إعداد وتجهيز وقضاء على مخلفات الماضي البغيض. حتى إذا شب محمد بن مكي ودرس على شيوخ بلاده ما أمكن أن يدرس. ورأى أن هؤلاء الشيوخ قد استنفدوا في تلقينه كل ما عندهم، ورأى أن هذا الذي تلقنه لا غناء فيه إذا هو أراد أن يكون شيئا مذكورا في العلم، حتى إذا رأى ذلك، عزم على الهجرة العلمية إلى العراق وهو في غضارة السن وطراوة العمر. فقصد مدينة الحلة حيث كانت مدرسة الشيعة الكبرى قبل النجف وهناك انكب على التحصيل، ثم عاد إلى بلاده مجازا من أساتيذه. مبرزا بمعلوماته، وشرع بتركيز قواعد التدريس ونشر العلم فاستطاع أن ينهض بالجبل نهضة جبارة كان هو رأسها وأساسها.
وهكذا يمكننا اعتبار سنة 755 هجرية وهي سنة عودة الشهيد من العراق مبدأ البعث العلمي والأدبي في جبل عامل.
نكبة جبل عامل بالجزار كانت نكبة جبل عامل بأحمد باشا الجزار من النكبات القاصمة فقد فوجئت البلاد بزحفه عليها وهي على غير استعداد، فاستطاع التغلب عليها وعلى من لقيهم من أبنائها ثم أطلق جنوده يعملون التخريب والتقتيل والسلب. وكان من أفجع ما لقيه جبل عامل في تلك المحنة نهب مكتباته نهبا عاما وحمل كتبها إلى عكا. وكان يمكن أن يكون الأمر سهلا لو أن تلك الكتب أريد لها في عكا الجمع والحفظ. لكن الجزار وأعوانه وهم الجهلاء رأوا زيادة في الانتقام أن يبيدوا تلك الكتب فيسلموها إلى أصحاب الأفران يوقدون بها أفرانهم، ويكاد يجمع المؤرخون العامليون على أن تلك الكتب ظلت تغذي الأفران في عكا أسبوعا كاملا.
على أن بعض الفلسطينيين من أهل المعرفة استطاعوا إنقاذ القليل منها، كما أن بعض من وقعت في أيديهم باعوا ما حصلوا عليه، وقد وصل قسم منها إلى مكتبة الأمير بشير الشهابي في بيت الدين، كما شوهد بعضها بعد ذلك في بعض البيوت البيروتية.
حصيلة خمسة قرون كانت تلك الكتب حصيلة خمسة قرون فإذا اعتبرنا بدء التجديد في جبل عامل هو عودة الشهيد الأول من العراق عام 755 هجرية يكون بين هذا التاريخ ونكبة البلاد بالجزار سنة 1195 أربعمائة وأربعون سنة.
أجل أربعمائة وأربعون سنة كان فيها جبل عامل مقرا للعلماء والشعراء الذين ألفوا وصنفوا وتوارثوا الكتب جيلا بعد جيل، حتى قضت على ذلك أفران عكا.
فقدان النماذج المنوعة من هنا لا نستطيع أن نجد أمامنا ما كان يجب أن نجده من نماذج منوعة للشعر العاملي طيلة تلك القرون. ولكن ما وجدناه يرينا الواقع ويعطينا الصورة الصحيحة لاستمرار الشعر في هذه الديار قوي الديباجة شديد الأسر متين اللفظ جميل المعنى صادق الشعور.