حفظ شعر النهضة ولا بد من القول أن نهضة الشعر العاملي كانت قد بلغت مقاما رفيعا حين حلول النكبة وقبيل حلولها، فقد شهدت البلاد عددا من الشعراء الفحول رافقوا أحداثها وعاشوا انتصاراتها وهزائمها فنظموا في ذلك شعرا عاليا، وعاش بعضهم حتى شهد النكبة وناله منها الترويع والتشريد، ورأى الفواجع تحل بمواطنيه فنظم في كل ذلك أحسن الشعر. ولحسن الحظ فان هذا الفريق الناجي قد استطاع بفراره أن يحفظ شعره من الضياع، فحفظته مجاميع بعلبك ودمشق والنجف، واستطعنا بذلك أن نراه أمامنا ونرى فيه صورة الشعر العربي الأصيل الصادق.
نماذج من القرن التاسع سنعرض نماذج مما سلم من الشعر العاملي في مختلف عصوره ترينا صدق ما قلناه من أن الشعر ظل هنا سليما قويا على مدى الأيام.
فمن ذلك أن قرية عيناثا كانت في أواسط القرن التاسع الهجري أي منذ خمسمائة وخمسين سنة مقرا لأعلى الدراسات الاسلامية والعربية وكان الطلاب يفدون إليها لا من الجبل وحده، بل من أقصى البلاد العربية، فجاءها فيمن جاء ناصر بن إبراهيم البويهي، وعكف على تلقي العلم فيها، وحدث يوما أن حصل من أستاذه العاملي ظهير الدين بن الحسام ما ظنه الطالب إهمالا له فقال متظلما من أبيات:
أشاقك ربع بالمشقر عاطل * فظلت تهاداك الهموم النوازل فأصبحت تستمري من العين ماءها * وهيهات قد عزت عليك الوسائل تذكرت من تهوى فأبكاك ذكره * وأنت بعيناثا على الكره نازل ويبدو أن أستاذه لم يكن شاعرا، أو أنه لم يشأ أن يجيبه بنفسه، فتولى الجواب الشيخ حسن أخو الأستاذ فقال:
لعمرك ما عزت عليك الوسائل * ولا أجدبت منا لديك المناهل ولا زلت منظورا بعين جميلة * ولو نظرت شزرا إليك القبائل فنحن أناس لا يضام نزيلنا * عزيز علينا أن تطانا الجحافل ندافع عن أحسابنا ومضيفنا * ولو نهلت منا الظبى والذوابل لنا منهل جم الفضائل ورده * تقل لديه في الزمان المناهل تخوض إليه الناس في كل مجلس * إذا أشكلت بين الرجال المسائل لئن ضنت الدنيا علينا بثروة * تفاضلها أشرارها والفواضل هذه القطعة الصغيرة الجميلة خير مثال على نضارة الشعر العاملي في ذلك العصر، فهي في صدقها وصفائها وترقرق ألفاظها وجمال أسلوبها، وما اشتملت عليه من تمدح متواضع بالفضائل الأصيلة من عزة وكرم وإباء وشجاعة وحفظ للجوار مع اعتراف بالفقر هي في كل ما تضمنته ترفع الشعر العاملي بنظرنا وتحببه إلينا.
والشيخ حسن ناظمها هو واحد من عشرات أمثاله كانت تغص بهم شعاب عيناثا ودروبها ومنازلها ومدارسها، ولكن آثارهم ضاعت وأشعارهم فقدت وبقيت هذه القطعة دليلا على دوام الأصالة في الشعر العاملي.
ويجب أن لا ننسى أن شعر ناصر البويهي نفسه هو حصيلة عاملية، فإذا علمنا أنه هبط عيناثا شابا حدثا، وأن مواهبه تفتحت في جبل عامل على أيدي أساتذة عامليين أدركنا أن شعره هو أيضا شعر عاملي بحت.
ومن القرن العاشر وفي القرن العاشر الهجري خرج الشيخ محمد الحياني من قرية بني حيان القرية البسيطة الصغيرة، ذات البيوت المحدودة والعدد القليل، والقابعة فوق تلة مشرفة على الثنايا والعقاب والأودية هناك في أقصى جنوب جبل عامل.
إن قرية بني حيان التي ظلت حتى اليوم غير معروفة لجمهرة العامليين أنفسهم فكيف لغير العامليين، والتي لا بد لك من الوصول إليها من أن تمتطي دابة أو أن تسير على قدميك إن كنت لا تزال ممن يستطيعون صعود الجبال مشيا على الأقدام.
من هذه القرية التي لا تزال اليوم كما كانت في القرن العاشر لم يتحسن فيها شئ. من هذه القرية خرج الشيخ محمد الحياني إلى النجف إما طلبا للعلم على الأرجح، أو ضجرا من حياة القرية الرتيبة المملة... وهناك في النجف ملكه الحنين إلى بني حيان إلى مراتع صباه ومدارج شبابه، إلى مغارس السنديان ومنابت الملول، فاخذ يرسل الشعر رقيقا عذبا قائلا أمثال هذا القول:
إذا ما بدا من جانب الشام معرق * عساه لقلبي بالوصال يبشر وإن هب من أرض النحارير نسمة * تنسمت روح الوصل فيها فاذكر رعى الله أياما تقضت وأعصرا * مضت في بني حيان والغصن أخضر وإذا كنا قد عرفنا بني حيان لأنها لا تزال قائمة، فان النحارير حيرت كل من قرأ هذه القصيدة، فما هي هذه النحارير التي يتمنى الحياني أن تهب عليه نسمة من نسماتها؟ يقول بعضهم إنها ربما كانت وادي الشحارير القريب من بني حيان، ويقول آخرون: إنها أرض موقوفة على العلماء النحارير ويقول غيرهم غير ذلك وإنها قرية طلوسة القريبة من بني حيان.
وأيا كانت النحارير فحسبها أنها كانت ملء خاطر هذا الشاعر النازح.
وبني حيان المتواضعة البسيطة ظلت موضع اعتزاز هذا العاملي الوفي فقال في نهاية إحدى قصائده واصفا للقصيدة:
عربية الألفاظ حيانية * يعنو لمعنى حسنها حسان وحسب القصيدة فخرا عنده أن تكون عربية الألفاظ عروبة صافية لم تخالطها عجمة، ولم تشنها لكنة، وإن تكون إلى ذلك حيانية منبتها بني حيان.
ويظل خيال بني حيان يفعم نفس هذا الشاعر العالم، وتظل صورة النحارير أمام عينيه فيكرر ذكرهما ويعيد التغني بهما فيقول من قصيدة أخرى مادحا علي بن أبي طالب ع مؤكدا أن جواره وحده هو الذي يحمله على البقاء بعيدا عنهما: