وكذا روى عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحق السبيعي أنهم قالوا في قوله " شرعة ومنهاجا " أي سبيلا وسنة وعن ابن عباس أيضا ومجاهد أي وعطاء الخراساني عكسه شرعة ومنهاجا أي سنة وسبيلا والأول أنسب فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا هي ما يبتدأ فيه إلى الشئ ومنه يقال شرع في كذا أي ابتدأ فيه وكذا الشريعة وهى ما يشرع فيها إلى الماء. أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل والسنن الطرائق فتفسير قوله " شرعة ومنهاجا " بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم ثم هو إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الاحكام المتفقة في التوحيد كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحدا " يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كما قال تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال تعالى " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " الآية وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشئ في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس وخفيفا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة والحجة الدامغة قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " يقول سبيلا وسنة والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والاخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام وقيل المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به وحذف الضمير المنصوب في قوله " لكل جعلنا منكم " أي جعلناه يعني القرآن شرعة ومنهاجا أي سبيلا إلى المقاصد الصحيحة وسنة أي طريقا ومسلكا واضحا بينا هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد رحمه الله والصحيح القول الأول ويدل على ذلك قوله تعالى بعده " ولو يشاء الله لجعلكم أمة واحدة " فلو كان هذا خطابا لهذه الأمة لما صح أن يقول " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شئ منها ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم ولهذا قال تعالى " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " يعني أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله وقال عبد الله بن كثير " فيما آتاكم " يعني من الكتاب ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها فقال " فاستبقوا الخيرات " وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله ثم قال تعالى " إلى الله مرجعكم " أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة " فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان بل هم معاندون للبراهين القاطعة والحجج البالغة والأدلة الدامغة وقال الضحاك: " فاستبقوا الخيرات " يعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - والأول أظهر وقوله " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " تأكيد لما تقدم من الامر بذلك النهي عن خلافه ثم قال " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من الأمور فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة " فإن تولوا " أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله " فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم " وإن كثيرا من الناس لفاسقون " أي إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه كما قال تعالى " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال تعالى " وإن تطع أكثر من في الأرض
(٦٩)