مقبلة " وهذه استعارة لأنه عليه الصلاة والسلام جعل الدنيا بمنزلة الهارب المولى، والآخرة بمنزلة الطالب المجلى (1). وذلك من أحسن التمثيلات، وأوقع التشبيهات، لان أبناء الدنيا بمثابة الهاربين من علائق الحمام، وبوائق الأيام، والموت الذي هو من أسباب الآخرة بمنزلة المغير على الأرواح، والهاجم على الآجال، وهذه الصفة مستمرة للدنيا في شبابها قبل أن تهرم، وفى ابتداء مدتها قبل أن تتصرم، لان كون الموت طالبا لأهلها، ومبددا لشملها، معلوم من أول انشائها، وتصوير أبنائها، وقد يجوز أن يكون المراد بارتحال الدنيا مدبرة معنى آخر يختص بحال الدنيا في أواخر مدتها، وعند تناهى غايتها. وهو أن توصف بتصرم الأمد، ونقصان العدد، كما يقول القائل: قد ارتحل عمر فلان. وقد أدبرت مدة فلان إذا مضى عنفوان أيامه، وقربت أوقات حمامه. ويروى هذا الكلام على تغيير في ألفاظه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، وقد أوردناه في كتابنا الموسوم " بنهج البلاغة "، وهو المشتمل على مختار كلامه عليه السلام في جميع المعاني والاغراض والأجناس والاعراض (2).
(١٩٩)