هذا ويمكن الاستدلال على اعتبار المحل العادي، بالمعنى الذي ذكرنا، بالسيرة العقلائية التي استدللنا بها لأصل القاعدة، فهل ترى من نفسك إذا كنت بصدد كتابة كتاب أو تركيب معاجين أو محاسبة أمور عديدة، وكنت عالما باجزائها وشرائطها، وبعد ذلك شككت في انك اتيت بها صحيحة تامة؟ فهل ترجع إليها مرة بعد مرة وإن كان محلها العقلي باقية بعد، أو تعتمد على ما كنت بصدده وتعامل مع ما فعلت معاملة الفعل الصحيح.
وهل ترى من نفسك إذا اتيت بغسل الجنابة بقصد رفع الجنابة ثم مضى أيام أو شهور، ثم شككت في الاتيان بالجزء الأخير منه، تعود إليه مرة بعد مرة لأن اجزاء غسل الجنابة في نفسها ليس لها محل شرعي يفوت بالفصل الطويل؟.
فالانصاف ان الاعتماد على المحل العادي في اجراء القاعدة بالمعنى الذي ذكرنا قريب جدا. ولعل ما حكى عن الفخر وغيره من أعاظم أصحابنا أيضا ناظر إلى هذا المعنى.
هذا ولكن الذي منع غير واحد من كبراء الأصحاب عن اختيار هذا القول وجعلهم في وحشة منه، ان فتح هذا الباب يوجب فقها جديدا، فإن لازمه انه إذا كان من عادة الانسان الاتيان بالصلاة أول وقته، أو الوضوء بعد الحدث فورا، الحكم بعدم وجوب اتيان بها عليه لو شك آخر وقتها وكذا عدم وجوب تحصيل الطهارة لو شك بعد حدثه بفصل طويل.
ولكنه توهم باطل فإن ما ذكرنا من البيان يختص بما إذا أحرز اقدام الفاعل على العمل قاصدا لاتيان تمام اجزائه وشرائطه ثم بعد ذلك شك في تماميتها، فإن هذا الفعل محكوم بالصحة والتمامية، ولو كان المحل الشرعي لتدارك بعض اجزائه باقيا، فإن العادة كافية هنا، وأما إذا شك في أصل وجوده ولم يحرز اقدام المكلف على العمل قاصدا له كذلك فلا.
ولعل ما حكى عن الفخر وغير واحد من الأعاظم الأصحاب أيضا ناظرة إلى هذا المعنى فإنهم مثلوا بغسل الجنابة لمعتاد الموالاة إذا شك في الجزء الأخير منه ومن الواضح ان هذا لا يوجب فقها جديدا ولا ما يستوحش منه من الفتاوى (فافهم).