الثالث: حكم العقل بلزوم درك المصالح الملزمة وعدم جواز تفويتها ولزوم حفظ النفس عن الوقوع في المفاسد.
بيان ذلك: هو أن الحق عندنا الامامية أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد التي نسميها بملاكات الأحكام، فالعاصي إما يترك واجبا فيفوت عنه مصلحة ذلك الواجب، وإما يرتكب حراما فيقع في مفسدة ذلك الحرام، والتوبة - أي الرجوع إلى طاعة المولى وترك مخالفته - مرجعها إلى عدم ترك الواجب، فلا يفوت عنه مصلحة ملزمة، أو إلى ترك الحرام، فلا يقع في مفسدة، وكلاهما - أي عدم فوت المصلحة الملزمة، وعدم الوقوع في المفسدة - مما يحكم العقل بلزومهما، فينتج أن التوبة لازمة بحكم العقل.
الرابع: في أنه لا شبهة في حكم العقل بلزوم الاستكمال والترقي في مراتب الحقيقة إن كان ذلك ممكنا وميسورا. ولا شك في أن الانسان بواسطة ارتكاب المعاصي، سواء كان بترك الواجبات، أو بفعل المحرمات ينزل، بل ربما يكون أنزل من الحيوان، وإلى هذا يشير قوله تعالى: (بل هم أضل سبيلا) 1، ولكن لما تاب ورجع إلى الله وصار كمن لا ذنب له، فينقلب نفسه من الخسة والرذالة والدناءة والخباثة والشقاوة إلى الشرافة والنزاهة والعلو والطيبة والسعادة.
فلو فرضنا أن فردا من أفراد حقيقة من الحقائق المشككة ذات مراتب متفاوتة بالكمال والنقص له إمكان أن يرقى نفسه من النقص إلى الكمال، لأنه فاعل مختار، له أن يكمل نفسه ويصعد من الحضيض الناسوتية إلى أوج القدس والكمال والملكوتية، ويزيل عن نفسه الرذائل، ويتحلى بالفضائل، فهل لعاقل أن ينكر وجوب ذلك عليه ويقول لا مانع له من إبقاء نفسه على النقص وإن كان أنزل من السباع الضارة والأفاعي السامة؟ ما أظن أن عاقلا يجوز مثل هذا المعنى، مع أن الله