فهذه الكبرى - أي شكر المنعم - لزومه بحكم العقل مما لا ريب فيه، وإلى هذا يشير قوله تعالى: (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) 1 أي هل جزاء من أحسن إليكم بهذه النعم المذكورة في سورة الرحمن إلا أن تحسنوا في شكره وعبادته.
فالكبرى فطري، وأما الصغرى - أي كون التوبة من شكر المنعم - فلانه لاشك في أنه تعالى أنعم بجميع النعم من ابتداء خلقة الانسان وكونه علقة في الرحم، إلى أن صار إنسانا سويا كاملا عاقلا بالغا ذا رشد عليه من إعطائه نعمة الوجود أولا، ثم إعطاء الجوارح اللازمة لرفع احتياجاته من اليد والرجل والعين والاذن وغيرها، بحيث يكون فقد أي واحد منها عنه يكون بلاء عظيما له، ثم بعد ذلك إعطاء الحواس الخمسة الظاهرية من اللمس والابصار والشم والذوق والسمع، بحيث يكون فقدان كل واحد منها يوجب نقصا لا يتدارك، وهكذا الامر في القوى الباطنة.
ثم أعظم وأكبر من ذلك أعطاه العقل المجرد الذي به يجلب كل خير ويدفع كل شر.
وقال بعض العارفين: إلهي إن أعطيته العقل فمن أي شئ أحرمته، وإن أحرمته من العقل فأي شئ أعطيته. أي: كل شئ لا يفيده لأنه بالعقل يوجد الله ويعبد ويكتسب به الجنان، وليس في العالم شئ أحسن من هذا وأنفع وأشرف، وبه يخرج عن حضيض الحيوانية إلى أوج الملكوتية، ثم أعطاه النعم الظاهرة التي يحتاج الجسم إليها في حياته وبقائه من المساكن والملابس والمآكل والمشارب والمراكب والمناكح وغير ذلك.
ولا شك في أن عصيان المولى المنعم ومخالفته في أوامره ونواهيه تمرد وبغي وطغيان عليه وابتعاد عنه، ورجوعه عن مخالفته وطغيانه وبغيه وابتعاده عنه إلى المولى والتزامه بترك مخالفته شكر له، فيجب ذلك عليه بحكم العقل الصريح الفطري، فالكبرى والصغرى كلاهما في هذا القياس ثابتة ومعلومة بغير إشكال.