وأوسع مغزى من تجربة الايمان في حياة الانسان، الذي كان ظاهرة ملازمة للانسان منذ أبعد العصور وفي كل مراحل التاريخ. فأن هذا التلازم الاجتماعي المستمر يبرهن - تجريبيا - على أن النزوع إلى المطلق، والتطلع إليه وراء الحدود التي يعيشها الانسان، اتجاه أصيل في الانسان مهما اختلفت أشكال هذا النزوع، وتنوعت طرائقه ودرجات وعيه.
ولكن الايمان كغريزة لا يكفي ضمانا لتحقيق الارتباط بالمطلق بصيغته الصالحة، لأن ذلك يرتبط في الحقيقة بطريقة اشباع هذه الغريزة وأسلوب الاستفادة منها، كما هي الحال في كل غريزة أخرى، فان التصرف السليم في إشباعها على نحو مواز لسائر الغرائز والميول الأخرى ومنسجم معها هو الذي يكفل المصلحة النهائية للانسان، كما أن السلوك وفقا لغريزة أو ضدها هو الذي ينمي تلك الغريزة ويعمقها أو يضمرها ويخنقها. فبذور الرحمة والشفقة تموت في نفس الانسان من خلال سلوك سلبي، وتنمو في نفسه من خلال التعاطف العملي المستمر مع البائسين والمظلومين والفقراء.
ومن هنا كان لابد للايمان بالله والشعور العميق بالتطلع نحو الغيب والانشداد إلى المطلق، لابد لذلك من توجيه يحدد طريقة اشباع هذا الشعور ومن سلوك يعمقه ويرسخه على نحو يتناسب مع سائر المشاعر الأصلية في الانسان.
وبدون توجيه قد ينتكس هذا الشعور ويمني بألوان الانحراف، كما وقع بالنسبة إلى الشعور الديني غير الموجه في أكثر مراحل التاريخ.
وبدون سلوك معمق قد يضمر هذا الشعور، ولا يعود الارتباط بالمطلق حقيقة فاعلة في حياة الانسان، وقادرة على تفجير طاقاته الصالحة.
والدين الذي طرح شعار (لا إله الا الله)، ودمج فيه بين الرفض والاثبات معا هو الموجه.