ونستنتج من ذلك أن نظام العبادات يعالج حاجة ثابتة في حياة الانسان خلقت معه وظلت ثابتة في كيانه على الرغم من التطور المستمر في حياته، لان العلاج بصيغة ثابتة يفترض ان الحاجة ثابتة ومن هنا يبرز السؤال التالي:
هل هناك حقا حاجة ثابتة في حياة الانسان منذ بدأت الشريعة دورها التربوي للانسان، وظلت حاجة انسانية حية باستمرار إلى يومنا هذا، لكي نفسر على أساس ثباتها ثبات الصيغ التي عالجت الشريعة بموجبها تلك الحاجة وأشبعتها، وبالتالي نفسر استمرار العبادة في دورها الايجابي في حياة الانسان؟
وقد يبدو بالنظرة الأولى ان افتراض حاجة ثابتة من هذا القبيل ليس مقبولا، ولا ينطبق على واقع حياة الانسان حين تقارن بين انسان اليوم وانسان الأمس البعيد، لأننا نجد ان الانسان يبتعد - باستمرار - بطريقة حياته ومشاكلها وعوامل تطورها عن ظروف مجتمع القبيلة الذي ظهرت فيه الشريعة الخاتمة ومشاكله الوثنية وهمومه وتطلعاته المحدودة. وهذا الابتعاد المستمر يفرض تحولا أساسيا في كل حاجاته وهمومه ومتطلباته، وبالتالي في طريقة علاج الحاجات وتنظيمها، فكيف بامكان العبادات بنظامها التشريعي الخاص ان تؤدي دورا حقيقيا على هذه الساحة الممتدة زمنيا من حياة الانسانية، على الرغم من التطور الكبير في الوسائل وأساليب الحياة، ولئن كانت عبادات كالصلاة والوضوء والغسل والصيام مفيدة في مرحلة ما من حياة الانسان البدوي، لأنها تساهم في تهذيب خلقه والتزامه العملي بتنظيف بدنه وصيانته من الافراط في الطعام والشراب، فان هذه الأهداف تحققها للانسان الحديث اليوم طبيعة حياته المدنية وأسلوب معيشته اجتماعيا. فلم تعد تلك العبادات حاجة ضرورية كما كانت في يوم من الأيام، ولم يبق لها دور في بناء حضارة الانسان أو حل مشاكله الحضارية.