وهذا الفراغ السياسي قد جعلها بعيدة عن نفوذ الأديان الكبرى بشكل فعال، ولو بفرض من السلطة الحاكمة، كالنصرانية والزرادشتية، وحتى عن التأثر باليهودية التي كانت تعيش بينهم ومعهم، فبقيت المنطقة بعيدة عن الشبهات والأفكار الغريبة والدخيلة، وإن كان قد تسرب إليها بعض اليهود فرارا من الرومان، ولكن لم يكن لهم أي نشاط ديني، أو لعله كان، ولكنه لم يثمر، إذ لم يكن ثمة سلطة تدعمه سياسيا واعلاميا، ولذلك فقد أشرنا إلى أنهم يذكرون أن نصارى تغلب ما كانوا يتمسكون من النصرانية إلا بشرب الخمر (1) بل إن جميع نصارى العرب كانوا كذلك (2).
وما ذلك إلا لان النصرانية بعيدة عن عقل وفطرة الانسان، ولا تستطيع أن تتصل بروحه ووجد انه لتفرض هيمنتها على أفعاله، وسلوكه.
أما الاسلام دين الفطرة الذي استطاع بفترة وجيزة أن يصنع أمثال أبي ذر، وعمار، وسلمان، فإنه يتصل أولا بعقل الانسان، ثم بروحه ووجد انه، حتى يحوله إلى انسان إلهي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وقد استطاع أن يجعل من هؤلاء المتوحشين إلى الأمس القريب، والذين لا يلتزمون بنظام، ولا يحكمهم قانون، أكثر الأمم اتباعا للنظم، وأشدها إيمانا واخلاصا للقانون الإلهي.
كما ويلاحظ أن من رباهم النبي والأئمة في فترات وجيزة جدا. مع محدودية إمكاناتهم لم تستطع الحكومات الأخرى، حتى التي تنسب نفسها إلى الاسلام أن تأتي بأمثالهم، رغم توفر كل الامكانات لها، الامر الذي يشير بوضوح إلى الدور الكبير الذي يضطلع به القائد والحاكم الحق