ومصادره، بظن يقرب من اليقين في أن معظم تلك الآراء المتخالفة المتناقضة إنما استمدها الباحثون، في الأكثر، من مصدر واحد، هو حياة أبي العلاء في عهد كهولته الأخير وشيخوخته، وفي لزومياته وبعض رسائله التي أنشأها آنئذ، ولم ينظروا إلا قليلا في حياته عهد الحداثة والشبيبة، وفي ما كان له عهد ذاك من شعر وأدب وسيرة.
ولست أعني طبعا أنهم لم يتحدثوا عن حياته في طوري الحداثة والشباب، ولم يفصلوا الحديث فيهما تفصيلا كافيا، فان أكثرهم صنع ذلك، ونخص الدكتور طه حسين بالذكر، لأنه بذل جهدا رائعا في استقصاء حياة أبي العلاء من فجرها إلى مغربها، وفي تحقيق أخباره كلها على منهج علمي واضح بكتابه تجديد ذكرى أبي العلاء. ولكن الأمر الذي أعنيه هو أن حياة المعري وشعره في أيام حداثته وشبابه وقسم من كهولته الأولى، لم يكونا مرجعا للباحثين في دراسته وفي تعرف شخصيته من منابعها وأصولها. ولذلك جاءت آراؤهم عنه في الغالب متناقضة، لأنها منتزعة من ظواهر سيرته وشعره أيام هو يلتزم سيرة متكلفة، ويقسر نفسه وفنه على أشياء قد لا تكون في الأصل من مكونات شخصيته وفنه.
ومن الإنصاف للحق أن نذكر الأستاد مارون عبود في أول من يمكن استثناؤهم في هذا المقام. فقد نظر في كتابه زوبعة الدهور إلى أبي العلاء نظرة شاملة بصيرة، فأقام فارقا واضحا بين المعري الإنسان في شبابه والمعري المفكر المتمذهب في أيام عزلته وشيخوخته. لقد تنبه مارون عبود إلى مرد الخطأ الذي وقع فيه معظم الذين درسوا أبا العلاء من المحدثين، إذ أسبغوا على حياته كلها ثوب زهده وتعففه وانقباضه عن الناس ومقته إياهم وتغلفه بالأحاجي والأسرار دونهم، كما يظهر في اللزوميات، وأغفلوا أن هذا ثوب أبي العلاء في عهد اللزوميات، لا ثوبه في عهد سقط الزند.
وبهذا الصدد يقول أديبنا الناقد الباحث مارون عبود: فقد توهم الناس، حتى الخواص من الأدباء هدانا الله وإياهم أن أبا العلاء خلق منزها عن الشهوات، بريئا مما يسميه غيرنا الضعف البشري، لا ينقصه شئ من الكمال في نظرهم، حتى كادوا يجعلونه بمعزل من الغرائز، كأنه غير مركب من لحم ودم. إن أبا العلاء. أيها، الفضلاء، وهذا لا يضير عصمته التي تزعمونها له قد تغزل كالشعراء لأنه أحب مثلهم الحب لا يضر يا سادة وأحس بما أحس به كل مركب من نفس وجسد وله دماع وقلب (1).
حين لم يحصر مارون عبود نظره في نطاق اللزوميات وسائر ما أنشأه أبو العلاء في محبسيه، وجد سقط الزند، ثم وجد في أشعار هذا الديوان وأغراضه شاعرا إنسانا يحيا كالشعراء، وكالناس في زمانه، ورأى أبا العلاء لا يقول عبثا، أي لا يصدر عن غير قلب يخفق بالحب، حين يقول:
أيا دارها بالخيف أن مزارها * قريب، ولكن دون ذلك أهوال أو حين يقول:
أيا جارة البيت الممنع جاره * غدوت ومن لي عندكم بمقيل لغيري زكاة من جمال فان تكن * زكاة جمال فاذكري ابن سبيل ورآه، كذلك، يمدح كالشعراء، ويهنئ بالزفاف وغيره مثلهم، ويغلو ويبالغ حتى لا يقصر عن صاحبه المتنبي في الغلو والمبالغة، ويجني غلة الشعر ويذوق بواكير محصوله كما يفعل غيره من شعراء ذاك الزمان، ويرثي كما يرثون، ويهجو مثلهم ولكن دون هجر، ويفتخر ويدعي مثل الشعراء بل أكثر منهم، إذن فلنثق جيدا أن المعري إنسان مثلنا، أكل وشرب وتلذذ مثل الناس، وهو لم يكذب حين قال:
تنسكت بعد الأربعين ضرورة * ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ فكيف ترجي أن تثاب، وإنما * يرى الناس فضل النسك والمرء شارخ (2) وإذا كان مارون عبود وقف من أمر أبي العلاء الإنسان الذي يحيا في سقط الزند عند هذه اللمحات، ولم يجاوزها إلى تفصيل كامل يخرج منه بالحلقة المفقودة التي تصل المعري هذا بالمعري المفكر المتمذهب الزميت بعد أن انطفأت نار شبيبته... فان هذا لا يقلل قطعا من شان السابقة التي بدأها صاحب زوبعة الدهور باهتدائه إلى شاعر سقط الزند، دون أن يخلطه بناظم اللزوميات...
روى الثعالبي في يتيمة الدهر عن المصيصي الشاعر أنه قال: رأيت بمعرة النعمان عجبا من العجب، رأيت أعمى شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر.
وأخذ بهذه الرواية كل من أرخ لأبي العلاء بعد ذلك، ولم نجد من يكذبها أو ينكرها عليه، غير أن الدكتور طه حسين شك (3) في أن أبا العلاء كان قادرا أن يلعب الشطرنج والنرد، وتأول قوله أنه يحمد الله على العمى كما يحمده غيره على البصر، تأولا ليس يخلو من تلك النظرة التي ينظر بها الباحثون إلى أبي العلاء من خلال حياته في اللزوميات...
ونحن نأخذ بهذه الرواية من حيث دلالتها العامة، دون تفاصيلها بالدقة. فسواء كان أبو العلاء يلعب الشطرنج والنرد حقا أم لم يكن، وسواء أكان يعني حقيقة ما يقول من أنه يحمد الله على العمى كما يحمده غيره على البصر، أم كان يعني من هذا القول ظاهرة وفي نفسه شئ آخر، إما سخرا بالمبصرين، وإما اعتدادا بالنفس وفخرا فان هذه الرواية بجملتها، تدل على كل حال أن شاعر المعرة الفتى كان ظريفا مرحا يجالس الظرفاء، ويشارك أهل الهزل هزلهم وأهل الجد جدهم، ويتصل بمواطنيه في المعرة اتصال مواطن إنسان، فهو يحيا حياتهم اليومية في غير تحفظ، ويخالطهم في لهوهم دون تزمت، ويحس معهم إحساس المسرة والمرح، دون أن تمنعه العاهة شيئا من ذلك، بل تزيده العاهة إقبالا على مثل ما يقبل عليه أترابه المبصرون توكيدا لوجوده وتفوقه.
أقول: نأخذ بالرواية من حيث دلالتها هذه، مع علمنا أنه ليس في أخبار أبي العلاء ما ينفي شيئا من نصها، فهي من الوجهة التاريخية المحض ثابتة غير منقوضة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن أشعار سقط الزند ذاتها تنبئ بأن الرواية ليست غريبة عن الواقع الذي كان يحياه أبو العلاء في عهده الأول