الذي سبق عهد عزلته وتزهده، ازددنا يقينا بان شاعر المعرة قد مارس حياته الأولى على امتلاء من علاقاته الإنسانية بحياة مواطنيه، وانفعال وجدانه الشاعري بالكثير من هذه العلاقات، وأنه كان ينظر إلى الناس والحياة من خلال عواطفه وعلاقاته هذه، وأن النظرة المتزمتة المتبرمة بالناس وبالحياة لم تكن عهدئذ قد وجدت سبيلها إلى نفسه وتفكيره.
وأول ما يلفت انتباهنا من الدلالات على ذلك في شعر سقط الزند، ما جاء في قسم الدرعيات من أبيات قالها في لاعب شطرنج:
قل لترب الآداب في كل فن * وحليف الندى وحرب العذول أيها اللاعب الذي فرس الشطرنج * همت في كفه بالصهيل من يباريك والبياذق في * كففك يغلبن كل رخ وفيل نصرع الشاه في المجال ولو * جاء مردي بالتاج والإكليل لطف رأي يستأسر الملك الأعظم * بالواحد الحقير الذليل أنت فوق الصولي في هذه الخللة، * مزر في غيرها بالخليل (1) لسنا ندري متى نظم المعري هذه الأبيات، ولكن يكفينا منها دلالتها الصريحة على معرفة أبي العلاء بأدوات الشطرنج وحركاتها معرفة الخبير، ثم دلالتها ضمنا على أن رواية يتيمة الدهر عن ظرف أبي العلاء ومشاركته في لعب الشطرنج زمن شبيبته، ليست بعيدة ولا غريبة عن الصدق والواقع، حتى في أضعف فقرة منها، وهي الفقرة التي شكك فيها الدكتور طه حسين كما تقدم.
ولنقارن الآن أبا العلاء الكاره للزواج وللمرأة وللنسل، المتشدد في هذه الكراهية إلى الحد المعروف عنه في أشعار اللزوميات، أو إلى الحد الذي دفعه كما يخبرنا أكثر المؤرخين له أن يوصي بان يكتب على قبره ذلك البيت الذي يصف جماع آرائه الصارمة في النسل والزواج والحياة معا:
هذا جناه أبي علي، * وما جنيت على أحد لنقارن أبا العلاء هذا صاحب اللزوميات، بأبي العلاء صاحب سقط الزند، فسنرى أن هذا الآخر قد أنشأ ثلاث قصائد في تهنئة ثلاثة من قومه بزواجهم، وأنشأ قصيدتين في التهنئة بمولودين...
ترى، أيتوافق هذا الاندفاع في التهنئة بالزواج وبالمولود، مع تلك النظرة الساخطة إلى المرأة والزواج والتناسل؟. إن بين الأمرين تناقضا ظاهرا!... فإذا قيل لنا إن هذه القصائد كان يدفع إليها المدح والمجاملة لبعض الأمراء في حلب، أكثر مما يدفع إليها الاستبشار بالزواج وبالمولود، أو التهنئة بهما لذاتيهما قلنا أولا: إن هذا أيضا دليل على أن أبا العلاء لم يكن يكره أن يمدح أمراء زمانه، ولم يخالف طريقة الشعراء في عهده من هذا الوجه.
ونقول ثانيا: إن شاعر المعرة قد ذكر المرأة في القصائد الثلاث، إلى جانب المدح، ذكرا جميلا تفوح منه رائحة الرجل الإنسان الذي يرى في المرأة وجه النعمة والنضرة والغبطة والخير. في حين هو يرى في اللزوميات أن:
بدء السعادة إن لم تخلق امرأة ويظهر لنا أنه لم ينظم هذه القصائد في صباه، لأن جامع الديوان وأبو العلاء نفسه هو جامع الديوان عودنا أن ينص عند كل قصيدة قالها في الصبا أنها مما قاله في ذلك العهد. فإذا رجعنا إلى إحدى هذه القصائد نسمعه يقول لصاحبه الذي يهنئه بزفافه (2):
وتهن النعمى السنية والبس * حلل المجد والفعال الخطير وتمتع بنضرة العيش، إذ جاءتك * في رونق الزمان النضير خير أيدي الزمان عند بني الدنيا * أتت في أوان خير الشهور يا لها نعمة، وليس ببدع * أن تحوز الشموس رق البدور ونرى استطرادا أن نثبت هنا أبياتا ثلاثة في القصيدة خص بها أبو العلاء مدينة حلب، قال:
حلب للولي جنة عدن * وهي للغادرين نار سعير والعظيم العظيم يكبر في عينيه * منها قدر الصغير الصغير فقويق في أنفس القوم بحر * وحصاة منها نظير ثبير (2) وفي القصيدة الثانية، وأكثرها طراز من المديح العادي المألوف، يخلص الشاعر إلى تهنئة أمير حلب بعرسه، فيقول:
الآن فاله عن الهيجاء مغتبطا * طال امتراؤك خلفي نابها الضبس (4) وفي حين نرى المرأة في اللزوميات، موضع سوء ظنه دائما، لا يثق بحفاظها على حصانتها، ويرى ضعفها على الاغراء هو الأصل في سلوكها، بحيث يقول هناك في اللزوميات:
وما يمنع الخود الحصان حصونها * ولو أن أبراج السماء حصونها نراه مع ذلك هنا في سقط الزند يراها أخت الأسد الصعب في امتناعها على غير المحلل لها من الرجال. وها هو ذا يقول لأمير حلب الذي يهنئه بعرسه، في القصيدة المتقدمة الذكر، وهو يصف عروسه:
ما ربة الغيل أخت الظبي فزت بها * بل ربة الغيل أخت الضيغم الشرس (5) يقصد أن هذه العروس ليس ينبغي أن تشبه كالعادة بالظباء، بل هي أشبه باللبوة أخت الأسد في امتناعها وحصانتها وعفافها. ألا ترى أن المرأة هنا عند أبي العلاء تناقض المرأة عنده هناك في اللزوميات؟.
وفي حين يرى أبو العلاء في اللزوميات أن من الخير للانسان أن لا يولد، وأن الحياة هبة أثيمة يجني بها الآباء على الأبناء:
فليت وليدا مات ساعة موته * ولم يرتضع من أمه النفساء نجده هنا، في سقط الزند يرى نقيض ذلك أيضا... فها هو ذا يهنئ أبا القاسم بن القاضي التنوخي بمولوده، فكيف يهنئه؟. إنه يرى الوليد المستهل نعمة نزلت من السماك الأعلى، فاستحق أن توفي بمولده النذور وأن تساق الهدايا إلى البيت الكريم، أي الكعبة، لأنه يرى المولود الكريم سرا من أسرار المجد لأبيه: