والحق أقول: إن الشريف وفق في مقصورته هذه قدر ما وفق في حسينياته تلك، بل ولعله برز في المقصورة ما لم يبرز في غيرها!
وبعد، فالقصيدة التي تبلغ اثنين وستين بيتا، إن وجد فيها أبيات معدودة لم ترتفع إلى المستوى العام للقصيدة نفسها، أم لم تبلغ المستوى التام لشعر شاعرنا، متى كان هذا دليلا يعتمد عليه على نفي القصيدة وحذفها بتمامها، إلا بالنسبة إلى الرضي، وفي مقصورته الحسينية خاصة، وعند الاعلام الصدامي!!.
فمن من الشعراء، من تقدم على الشريف منهم، من جاهليين، ومخضرمين، وإسلاميين، من أمويين أو عباسيين، أو الذين عاصروه أو جاءوا بعده، وإلى عصرنا الحاضر، لا في الأدب العربي فحسب بل في الآداب الإنسانية كلها بمختلف عصورها ولغاتها من أمكنه أن يحتفظ بمستوى واحد لا يقصر عنه أبدا، في كل ما نظم أو كتب؟!
ولا أجدني بحاجة إلى إيراد الأمثلة، فالتهذيب والانتفاء سمة عامة لكل شاعر وأديب، وشعر المناسبات يختلف عن الآثار الأدبية المقصود منها التبرز والظهور، وبعد التهذيب والانتفاء لا يزال هناك فارق كبير في شعر أي شاعر، وفي أدب أي أديب، بين هذا الشعر وذاك وبين هذا القول وذاك!
والرضي نفسه كان يعمد إلى مثل هذا، وتجد مثالا لذلك في ديوان الرضي: 2 816، وللدكتور الحلو إشارات إلى هذا الأمر، ولعل الشريف أراد لمقصورته أن يعيد النظر فيها ويهذبها أو ينتقي منها، ولكن المنية لم تمهله في سن مبكر نسبيا وهي من آخر ما قاله، وأمانة الخبري لم تسمح له أن يصنع شيئا لم يفعله الشاعر نفسه.
وبهذا أكون قد ناقشت ما قرره الدكتور الحلو: ولعل أفضل وسيلة للحكم عليها أي المقصورة هي الرجوع إلى قصائد الرضي الأخرى في رثاء الحسين بن علي س على قلة شعره في هذا الباب بالقياس إلى شعراء الشيعة فيه ثم يستعرض سماتها العامة ويميزها عما جاء في المقصورة فيقول: وقد استبان من هذا العرض للمعاني التي وردت في القصائد الأربع الأولى، والقصيدة الأخيرة: أنه لا نسب بين هذه الأربع وبينها، فهذه الشكاة التي تنضح بها القصيدة الأخيرة، والاستغاثة بالرسول ص وخصومته لبني أمية في الدار الآخرة، ووقوفه موقف المظلوم، وتعداد الأئمة، واعتبارهم الشافين من العمى، والشفعاء مع الرسول يوم القيامة والتأكيد على مقاطع معينة، إنما هو منا، لا من الدكتور نفسه كل هذا لم نعهده من الرضي في رثائه لأبي عبد الله الحسين، وإنما عهدناه ثائرا تلمع نصول السيوف في شعره، وتتطاول لها ذم الأسنة، مهددا بيوم يجرد فيه الخيل للوغى، لا بالعقاب والحساب في يوم القيامة (1).
وتتلخص المناقشة: نعم هناك فارق ولكن، لا بين شخصين، ولكن بين روحين: فان ما نلمسه في تلك القصائد الأربع، إنما هو روح الشريف نفسه، وما نلمسه في المقصورة إنما هو الوجدان الشيعي المتمثل في الشيعة ومنهم الشريف، فالشريف في تلك يكشف عن نفسه ونفسياته الخاصة به، وفيها يعبر عن روح الولاء الذي يحمله كل شيعي حسيني!
2 وأما الزيدية والامامية وعقيدة الشريف، فأرى أن البحث فيه من لغو القول! فلم يكن الشريف بالرجل المغمور الذي يجهل أصله، وأهله، والوسط الذي كان يعيش فيه، والذين كان يتصل بهم، أو يتصلون به، حتى يجهل مذهبه، ويكون مجال شك، ثم مجال بحث واستدلال! فهو إمامي معروف، معروف بأسرته وأهله، ومن يتصل بهم من الامامية، لم يشك في ذلك أهله ولا أصحابه الامامية! ولكن لاعتبارات لا تخفى، أحكي كلاما لأحد علماء الزيدية حول الموضوع:
قال يوسف بن يحيى بن الحسين بن الإمام المؤيد بالله محمد بن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي الحسني الصنعاني الزيدي 1078 1667 1121 1709 بعد أن ذكر جملة من قصيدة الرضي البائية في الأئمة الاثني عشر ع، ومنها:
سقى الله المدينة من محل * لباب الماء والنطف العذاب وجاد على البقيع وساكنيه * رخي الذيل ملآن الوطاب وأعلام الغري وما استباحت * معالمها من الحسب اللباب وقبرا بالطفوف يضم شلوا * قضى ظما إلى برد الشراب وسامرا وبغدادا وطوسا * هطول الودق منخرق العباب (2) قال: هذه الأبيات من القصيدة أردت بإيرادها تبيين معتقد الرضي، رحمه الله تعالى، فان جماعة ممن قصر فهمهم من المؤلفين يتهمونه أنه على مذهب الامام أبي الحسين زيد بن زين العابدين، قدس الله روحه، ونعم ذلك المذهب الفاضل! ومن العجب أن منهم القاضي أحمد بن سعد الدين، مع وفور علمه وإطلاعه، ويحتجون بأنه كان يريد الأمر الذي كان في يد الخليفة ذلك الزمان، بدليل أبياته القافية الشهيرة، التي كتبها إلى الطائع، ولأن ابن عنبة قال في عمدة الطالب: وقيل: أن الرضي كان زيديا. ولم يعلموا أنه أراد الملك لأنه أحق به، ولو أراد الخلافة لم تنتقض عقيدته على مذهب الإمامية، ويلزم من هذا أن المرتضى أخاه، حيث كان أول من بايع الخليفة هو، كان عباسيا، وليس كل من شهر السيف دعي زيديا! وإلا لكان الخوارج زيدية! وهذا شعر الرضي وروايات العلماء عنه تأبى ذلك، وكل تابع لأهل البيت البررة الأتقياء موفق، إن شاء الله تعالى، وتابع جعفر الصادق وزيد بن علي لم يتبع إلا البر التقي المجمع على فضله (3).
3 وأما ما ذكره الدكتور الحلو أخيرا: وظني الغالب أن هذه القصيدة مصنوعة ومنسوبة إلى الشريف الرضي، أراد صاحبها لها الذيوع والانتشار في محافل عاشوراء، فاجتهد ما وسعه الاجتهاد في أن يضع عليها ميسم الرضي، وخانه التوفيق في بناء بعض أبياتها، كما فضحه حشو القصيدة بعقائد لم يمرن