تاريخ مسكويه وصل إلى سنة 369 ه، فكيف يمكن أن يكون آخر الكتابين أمدا واحدا. وأما هلال الصابي لو صح نقل مسكويه عنه، فهو يصل بحوادث أوائل كتابه أي من سنة 364 ابتداء تاريخ هلال إلى سنة 369 أي انتهاء تجارب الأمم. بيد أن هذا أيضا، مرفوض. لأن مسكويه في هذه الفترة، يكتب التاريخ عن مشاهدة وعيان، ويعتبر مصدرا لنفسه.
4 - مسكويه مصدرا: مهما يكن من أمر الفترة السابقة، أي التي تنتهي إلى سنة 340 ه، فان مسكويه بشهوده وعيانه تارة، وبسماعه من الأصدقاء والزملاء الساسة المشايخ تارة أخرى، يعتبر مصدرا حيا لكتابة تاريخه. لقد صرح مسكويه بذلك في بداية ذكر الحوادث لتلك السنة حيث قال:
أكثر ما أحكيه بعد هذا السنة 340 ه فهو مشاهدة وعيان، أو خبر محصل، يجري عندي خبره مجرى ما عاينته، وذلك أن مثل الأستاذ الرئيس أبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد رضي الله عنه خبرني عن هذه الواقعة وغيرها بما دبره، وما اتفق له فيها، فلم يكن إخباره لي دون مشاهدتي في الثقة به، والسكون إلى صدقه، ومثل أبي محمد المهلبي رحمة الله خبرني بأكثر ما جرى في أيامه، وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة، وحدثني كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة، وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما شاهدته وجربته بنفسي، فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.
وهكذا يصل تاريخه إلى سنة 369 ه مع أنه عاش حتى 421 ه أي لمدة نصف قرن، تاركا كتابة تاريخ تلك المدة، وبالرغم من ذلك، فان تجارب الأمم عرف كمصدر أساس لا يستغنى عنه لدراسة القرن الرابع الهجري والعصر البويهي الذي يعتبر ألمع العصور الاسلامية علما وحضارة.
تجارب الأمم: اسمه اسم الكتاب هو تجارب الأمم كما سماه مسكويه نفسه في مقدمته حيث قال:
فجمعت هذا الكتاب وسميته تجارب الأمم. وقد ذكره بضبط أمين كل من ياقوت 5: 10، وابن الأثير 7: 118، 8: 86، وكذلك القفطي: 331، والبيهقي: 18 19، وابن خلكان 2: 19، وابن خلدون 3: 772، والخوانساري 1: 255، وغيرهم. ولكنه ورد بزيادة عواقب الهمم عند كل من أبي سليمان في الصوان: 347، والروذراوري في الذيل: 5، والسخاوي نقلا عن عمر بن الفهد الهاشمي المكي في إتحاف الورى روزنتال: 441.
والزيادة عند العاملي 10: 146 هي تعاقب الهمم وهي ضبطت عند كيتاني في مقدمته بكسر القاف وهو خطا. والزيادة هذه إنما نشأت عن أسلوب السجع في عنونة المصنفات، الأسلوب الذي طالما ساد أو ساط الكتاب والنساخ طيلة القرون ممن لم يرضوا بما سماه المصنفون تصانيفهم، فشفعوا أسماءها بما شاء لهم السجع والصنعة المتكلفة، بالرغم من تصريح المؤلفين في ضبط أسماء آثارهم. ولذلك نرى الشطر الثاني: عواقب أو: تعاقب الهمم موضوعا مختلقا، لأن مسكويه صاحب الكتاب، أثبت اسم كتابه في مقدمته بقوله: تجارب الأمم لا أكثر ولا أقل، حيث قال: فجمعت هذا الكتاب وسميته تجارب الأمم. والغريب في الأمر أن الناسخ الذي نسخ فيما نسخ، هذه المقدمة وتصريح المصنف باسم كتابه، نراه في عبارات الختام والفراع، وقد أضاف على الاسم شطرا ثانيا تارة، وقدم الشطر الثاني على الشطر الأول تارة أخرى، أي كتب مرة: تجارب الأمم وعواقب الهمم. ومرة: عواقب الهمم وتجارب الأمم!.
تجزئه تجارب الأمم إن التجزئة الكاملة الوحيدة التي وصلت إلينا من تجارب الأمم هي تجزئة مخطوطة أيا صوفيا وهي ستة أجزاء. أما مخطوطة ملك مط فهي في مجلد واحد كبير، وليس فيه تجزئة، اللهم إلا إشارة بسيطة في الهامش تدل على أن المخطوطة انتسخت عن نسخة كانت على ثلاثة أجزاء، دون أي إشارة إلى عبارات الافتتاح من البسملة والتحميد وغير ذلك. وهذا التثليث يبدو أيضا مما بقي من مخطوطة ملك الثانية مح، أو مخطوطة آستان قدس أ، فهما أيضا كانتا في الأصل ثلاثة أجزاء.
أما تجزئة أيا صوفيا فهي تجزئة كمية، أي لم يعتبر فيها التقسيم التأليفي الذي يبتنى عادة على المواضيع الرئيسة، أو الفترات التاريخية المحددة خاصة في أثر تاريخي مثل تجارب الأمم. لذلك نقلنا 43 صفحة من بداية الجزء الثاني وأضفناها إلى نهاية الجزء الأول، أولا لاكمال الفصل الأخير من الجزء الأول، ثانيا من أجل إكمال عصر ما قبل الأموي، وسنراعي هذا المبدأ في الأجزاء الباقية أيضا إذا اقتضى الحال.
ومن ناحية أخرى، قسمنا الجزء الأول إلى قسمين: قسم خاص بما قبل الاسلام وهو مفصل بدوره إلى فصول حسب عصور الأسر الحاكمة الإيرانية مثل: الفيشداذية، والكيانية، والأشغانية، والساسانية، وقسم آخر خاص بالعصر الراشدي، وفيه فصول حسب أيام الخلفاء.
أما العناوين الفرعية التي كانت في أصل المخطوطة فلم نجدها كافية لارشاد القارئ إلى مواد الكتاب ومواضيعه، ولذلك اخترنا لها عناوين وأثبتناها بين المعقوفتين شانها في ذلك شان العناوين الرئيسة التي وضعناها للأقسام والفصول.
مخطوطات تجارب الأمم لم يصل إلينا من مخطوطات هذا الكتاب إلا القليل، لا سيما إذا كان المراد المخطوط الكامل المشتمل على كل أجزائه. وهذه المخطوطات بغض النظر عن كمالها ونقصها هي:
1 - أيا صوفيا الأصل: مخطوط كامل في ستة أجزاء محفوظ في أيا صوفيا باسطنبول برقم 3116 إلى رقم 3121. انتسخه محمد بن علي بن محمد أبو طاهر البلخي بكامل أجزائه بحيث فرع من انتساخ الجزء الأول في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسمائة 505 ومن انتساخ الجزء السادس والأخير منه في منتصف شهر ربيع الأول سنة ست وخمسمائة 506. أي في مدة سنة واحدة. قطعه صغير، وفي الصفحة الواحدة منه 12 سطرا، وفي كل سطر 13 كلمة. أول هذه المخطوطة أي في فاتحة الجزء الأول وبعد البسملة والتحميد: قد أنعم الله علينا... وأخرها أي في نهاية الجزء السادس: إلا أنه لم يظهر أمره لأحد. هذا آخر ما عمله الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه رضي الله عنه والحمد لله وصلواته على محمد النبي وآله أجمعين وحسبنا ونعم الوكيل. أما تجزئة الكتاب في هذه المخطوطة فهي كما يلي: