محمد بن عبد الله الأصبهاني، وكان رجلا فاضلا قصده إلى معرة النعمان ولازمه مدة حياته يقرأ عليه بعد أن استعفى أي المعري من ذلك، ثم أجابه فقرأ عليه الكتب إلى أن مات يقصد المعري وقد أشار إلى ذلك في مقدمة ضوء السقط. وأقام أبو عبد الله الأصبهاني بحلب، وروى عن أبي العلاء كتبا متعددة من تصانيفه، وهو الذي سأله أبو العلاء أن يشرح له سقط الزند فشرحه، ووسمه ب ضوء السقط.
ومن هذا النص، ومن أمثاله في تضاعيف عدد من المراجع التاريخية الأدبية، يتبين بجلاء وتوكيد أن أبا العلاء كان حفيا بديوانه سقط الزند إلى حد أن تلاميذه كانوا يروونه عنه بالإجازة، وكان عدد من طلاب العلوم الوافدين إليه من أقطار مختلفة يدرسون هذا الديوان عليه في جملة ما يدرسون. فقد ذكر السيوطي في بغية الوعاة في ترجمة نصر بن صدقة القابسي النحوي أنه كان ممن يعاني الأدب، فقدم مصر وأخذ عن علمائها، ثم توجه إلى المعرة فلازم أبا العلاء، وأخذ عنه ديوانه سقط الزند وكتب منه نسخة جيدة، ورجع إلى مصر فقدمها للحاكم وقرأها عليه، فأعجبه نظمه، وأرسل إلى عزيز الدولة الوالي بحلب أن يحمله أي يحمل المعري إلى مصر. فاعتذر، فكف عنه.
ويروي أحمد تيمور باشا (1) هذه الحكاية بصورة أخرى نقلا عن مقدمة رسالة للمعري تسمى الفلاحية تقول أن القابسي هذا لما رجع إلى مصر بنسخته سقط الزند أهداها للوزير أبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحي، فأعجب بها واستدعى كاتب الديوان وأمره أن يكتب إلى عزيز الدولة متولي حلب وأعمالها، في حمل أبي العلاء إلى مصر، ليبني له دار علم، وسمح بخراج معرة النعمان له في حياته وبعدها، فوصلت الأوامر إلى ديوان الشام بكتب السجل، فكتب وجهز على البريد، فلما وقف عليه عزيز الدولة نهض للوقت حتى دخل معرة النعمان، وقرأ السجل على أبي العلاء، فقال:
أمهلني حتى أكتب جواب السجل إلى مجلس الوزارة، فلعل العفو يسامحني بالمقام في بلدي، إذ لا يمكنني الخروج منه. فأمهله الأمير، فاحضر الكاتب للوقت، وأملى عليه هذه الرسالة أي الرسالة الفلاحية يعتذر فيها عن عدم الرحيل بعجزه عنه.
وفضلا عما لهذه الحكاية، بوجهيها، من دلالة على احتفال أبي العلاء وتلاميذه بديوان سقط الزند، تدل كذلك على احتفال الناس في عصره بهذا الديوان وبأدب أبي العلاء وبمكانته، كما تدل على إباء المعري نفسه وعزوفه عن عروض المال والجاه من حكام زمنه، وقد دلت على ذلك روايات عدة في أخبار أبي العلاء.
وأما ما تنبئ عنه رواية أبي زكريا التبريزي، المتقدمة الذكر، من أنه رأى أبا العلاء يكره أن يقرأ عليه شعره في صباه الملقب بسقط الزند، فيمكن حمله على بعض أشعار هذا الديوان مما هو منظوم في صباه حقا. يدلنا على هذا التخريج للرواية أن أبا العلاء قد جعل حجته في الامتناع عن سماع هذا الديوان كونه مدح نفسه فيه، وهذه حجة لا تنهض إلا بالنسبة للأبيات التي مدح فيها نفسه، ولم أجد من هذه الأبيات في النسخة المطبوعة من سقط الزند التي درست فيها الديوان، سوى قليل، وهي أقل من أبيات نستشعر فيها تواضعه جاءت في مراسلاته لأخوانه، فلعل شيئا من النقص أصاب الديوان خلال القرون التي انقضت من عهد أبي العلاء إلى اليوم، أو لعل طابعي هذه النسخة قد أنقصوا الديوان بعض قصائده، وهذا ظاهر بالفعل وسنوضحه بعد.
ومهما يكن من شان رواية التبريزي، فإنها لا تستطيع أن تعارض ما نقلناه وما لم ننقله من الروايات والأخبار المستفيضة عن اهتمام أبي العلاء بهذا الديوان.
على أن أديبنا العظيم، أبا العلاء، قد ذكر في خطبة سقط الزند أي مقدمته ما يشبه هذا الذي حكته عنه رواية التبريزي، فقد قال ما نصه:
أما بعد، فان الشعراء كأفراس تتابعن في مدى، ما قصر منها لحق وما وقف ذيم (2) وسبق، وقد كنت في ربان الحداثة (3) وجن النشاط، مائلا في صغو القريض، أعتده بعض مآثر الأديب، ومن أشرف مراتب البليغ، ثم رفضته رفض السقب (4) غرسه، والرأل تريكته (5)، رغبة عن أدب معظم جيده كذب، ورديئة ينقص ويجدب، وليس الري عن التشاف (7)، ويعلمك بجنى الشجرة الواحدة من ثمرها، ويدلك على خزامي الأرض النفحة من رائحتها، ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طالبا للثواب وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس أي الطبيعة فالحمد لله الذي ستر بعفة من قوام العيش ورزق شعبة من القناعة أوفت على جزيل الوفر.
هذه قضية يعنينا أن يجلوها أبو العلاء بمثل هذا الكلام يصدر عنه هو، ولا يتركها لمجرد الاجتهاد والاستنتاج، وإن كان لنا من أخباره كما قلت ما يعين على الاجتهاد والاستنتاج.
ويبقى الآن أن نعود إلى هذه الدعوى من أبي العلاء ومن المؤرخين لحياته وأدبه، من القدماء والمحدثين على السواء، وهي دعوى أن شعر سقط الزند هو شعر الحداثة والصبا.
هذا غير صحيح، ففي شعر هذا الديوان، كما وصل إلينا وكما نراه في شرح أبي يعقوب يوسف بن طاهر النحوي صاحب التنوير وهو مقارب لعهد أبي العلاء ما قد نظمه المعري وهو في بغداد، وما قد نظمه بعد رحلته إلى بغداد أثناء اعتزاله الأخير بالمعرة. ومن ذلك قصيدته في رثاء أبي أحمد الطاهر والد الشريفين الرضي والمرتضى، فقد توفي هذا عام 403 ه، ومعلوم أن المعري بدأ عزلته بالمعرة عام 400 ه، فكيف تكون هذه القصيدة وهي من شعر سقط الزند مما قاله الشاعر في صباه؟. ومن