الفارابي، من جهة أخرى. وأنه ليلفت النظر حقا ما وجدنا عليه أكثر مخطوطاته في التزامها بلفظة سبيل بدل أسباب رغم أنها غير متأخرة النسخ والتدوين!...
أما وضعنا لفظة كتاب في بدء عنوان التنبيه، فقد اعتمدنا في ذلك على تنظير المؤلف بالذات الذي يقول فيه: بحسب الوسط المحدود في هذا الكتاب لذا أجزنا لأنفسنا هذه الإضافة، بدل لفظة رسالة التي اصطنعها بعض الناسخين.
وأعود ثانية إلى ما سبق لنا تقريره عند تحقيقنا لكتاب تحصيل السعادة للفارابي حيث قلنا إن التحصيل يعتبر مفتاحا لما يجب أن يسلكه طالب الفلسفة كفرد أو عضو في مجتمع متكامل، وتكافله وتكامله هذا لا يتم إلا بشكل مرحلي يتدرج فيه من الأعم إلى الأخص، وعندئذ يتلو كتاب تحصيل السعادة كتاب التنبيه على سبيل السعادة، لأن الغرض منه كما بسطنا من قبل هو أن تتقوم النفوس بسلوك جميل نافع ينهض على أساس من الادراك المعرفي عند الإنسان، كي تتحقق لديه قوة إدراك الوسط الأخلاقي... وفي هذا المجال تساير الفلسفة العملية اقتناء الفعل الجميل، وذلك بارتباطها بالتطبيق المدني لهذه الأفعال، أو بالأحرى بالسياسة، خاصة في مفهومها الأخلاقي... وفي حال التقاء المرحلة الأولى مع المرحلة الثانية والتحامهما معا، تتحقق لهذا الإنسان ولهذا المجتمع سعادته التي يتطلع إليها.
والذي نريد التأكيد عليه هو أن كتاب تحصيل السعادة يعتبر في رأينا الأول في البناء السياسي والاجتماعي، وكتاب التنبيه على سبيل السعادة الذي بين أيدينا هو الثاني. ولعل في دراستنا وتحقيقنا لبعض رسائل الفارابي الفلسفية التي نعدها للنشر قريبا، ما يوضح للقارئ هذا الموقف الذي اخترنا.
وجدير بالذكر هاهنا، أننا نميل، كما ذكرنا في نشرتنا لكتاب تحصيل السعادة، إلى أن مؤلفات الفارابي السياسية والاجتماعية تأتي بعد مجموعته المنطقية المعروفة أعني شروحه المطولة فهي إذن لا تبدأ بظهوره الفلسفي، بل هي متأخرة، في تصورنا، عن بواكيره الأولى، وقد يرتفع بعضها إلى مرحلة شموخه الفلسفي... ورأينا هذا متأت من أننا نتبنى أصلا الفكرة التي ترى أن محاولة الفارابي في الاصلاح السياسي والاجتماعي ظهرت عند ما لمس الفيلسوف انهيار القاعدة الاسلامية ووسائل الحكم فيها، مما جعله يربط بين تأثيراته العامة بالانجاز الأفلاطوني والأرسطوطالي في هذا السياق، وقيم التعاليم الاسلامية التي لم يسبق تطبيقها فعلا، وإنما احتواها الحكام من الناحية النظرية فحسب.
وأيا ما كان، فحذار أن نقع بما وقع فيه بعض الباحثين العرب من أمثال د. محسن مهدي حين اعتبر كتاب التنبيه على سبيل السعادة هو الجزء الأول من مجموعة ثلاثية هي:
1 التنبيه على سبيل السعادة.
2 الألفاظ المستعملة في المنطق.
3 كتاب المقولات.
وجميع هذه الكتب تكون ما يسمى ب الأوسط الكبير أو المختصر الكبير!... وكان السبب الرئيس في الانزلاق إلى هذا الرأي هو أن الفارابي في الربع الأخير من كتابه التنبيه يتحدث عن الوسيلة التي ينبغي أن يميز فيها الإنسان بين الحق والباطل، والخطأ والصواب كما أوضحنا ذلك في فقرة سابقة، ويعني بها صناعة المنطق وألفاظه التي تسبقها صناعة النحو كدليل يسوقه لتحديد طرائق المنهج التي تسبق الشروع بدراسة الفلسفة وموضوعاتها، لذا عد هذا وسيلة لتلك... بينا نجد الفيلسوف في تنظيره المعرفي يؤكد، وبوضوح تام، أن المنطق الحق هو البرهان لأنه السبيل الحقيقي لهذه الصناعة، الذي يقود إلى التصديق اليقيني من حيث أنه يؤدي إلى قوانين ثابتة يمكن الاستعانة بها في جميع موضوعات الفلسفة.
في ضوء هذا الذي ذكرنا، لا نجد ما يبرر صحة الرأي الذي يذهب إلى أن كتاب التنبيه على سبيل السعادة هو الجزء الأول من مجموعة الفارابي المنطقية، لأن الكتاب المذكور كما نرى لا يعد وسيلة لصناعة المنطق، باعتبار أنه ينهض أساسا على محاولة تحقيق السعادة الإنسانية المرغوبة في ظل دراسة الفلسفة كمنظومة قائمة على منهج محدد. وأن كثيرا من فقراته ترتبط أصلا في البحث عن مفاهيم وأصول أخلاقية واجتماعية.
فهل يصح بعد الذي قلناه اعتبار التنبيه على سبيل السعادة كأنه المقدمة التي قدمها الفارابي لكتاب الألفاظ المستعملة في المنطق؟... إنه أمر لا يمكن الركون إليه، ولا يحسن الأخذ به منهجيا، على أقل تقدير!...
فما المقصود إذن بعبارة الفارابي التي يقول فيها ونجعل ما لنا لهذا الكتاب التي قرأها د. مهدي ونجعله تاليا حسب ما ورد في بعض نسخ التنبيه.
وفات د. محسن مهدي أن مخطوطة المكتبة البريطانية المرقمة 7518.
ترد فيها النهاية واضحة كما ذكرنا في أعلاه، أي ونجعل ما لنا لهذا الكتاب ويعني بذلك كتاب التنبيه. ومن هنا فان القراءة الخاطئة لمحسن مهدي أوقعته، من حيث يعلم أو لا يعلم، في الحكم المبتسر حول كتاب التنبيه!...
إنني لا أتردد في أن أبا نصر الفارابي قصد بعبارته تلك الإشارة إلى أن السعادة لا تتم للانسان إلا بوسائلها العقلانية المتميزة، ولا بد لنا من دراسة ما يؤدي إلى اقتناء هذه الملكة المتميزة فاذن ينبغي أن نفتح كتابا من كتب الأوائل متخذين إياه مدخلا إلى دراسة ألفاظ المنطق وموضوعاته، كما يقول الفيلسوف... وليس في هذا ما يدعو إلى اعتبار التنبيه على سبيل السعادة هو الجزء الأول الذي يسبق كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، كما بسطنا من قبل... إن التنبيه كتاب يرتبط، من حيث التنظيم، بدلالة المفهوم الذي يصحر به الفارابي دائما وهو تحصيل السعادة.
أما الإشارة الواردة في كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق والتي تقول: وقد قيل في الكتاب الذي قدم على هذا الكتاب أي قوة يفيدها صناعة المنطق وأي كمال يكسبه الإنسان بها... وبالجملة فإنها تكسب القوة أو الكمال الذي ذكرناه في الكتاب الذي قبل هذا. والتي اعتبرها د. محسن مهدي تأكيدا لما ذهب إليه بخصوص كتاب التنبيه على سبيل السعادة!...
أقول إن الفيلسوف هنا يعني كتاب إحصاء العلوم الذي يورد فيه فقرة مفصلة عن المنطق ووسائله وغاياته. ويؤيد رأينا هذا حديث الفارابي عن السوفسطائية