غير أن مصطفى كمال كان يرسم طريقا مغايرا لكل هذه الرهانات. ولن تلبث معاهدة لوزان أن تقطع الطريق على كل هذه الاحتمالات لنفتح طريقا واحدا أمام تركيا هي طريق القومية العلمانية. وبذلك يتلقى التيار الاسلامي في بلاد العرب كما في غيرها من البلدان الاسلامية ضربة قاسية ويصاب الفكر الاسلامي حينها بحالة من القلق والتساؤل والتردد بالرغم من مؤتمرات الخلافة التي عقدت والتي انتهت بتأجيل البت بمسألة الخلافة. كما تشهد الساحات السياسية تحركات مشبوهة من السلاطين والملوك ومن الدوائر الدبلوماسية الغربية لتقطف ثمار هذا الفراغ السياسي.
ثم أن ما ينبغي التنبه له هو أن العامل الحاسم في إضعاف التيار الاسلامي لم ينحصر في قرار إلغاء الخلافة الذي اتخذه مصطفى كمال. ذلك أن المؤسسة السلطانية كانت قد أضحت عمليا بلا حول ولا طول وكانت قد فقدت شرعيتها الاسلامية بعد عجزها عن المقاومة واستسلامها للأجانب وقبولها بمشاريعهم.
إن ما يغفل عنه الباحثون هو أن سلسلة من الثورات الشعبية التي ارتكزت إلى منطلقات إيمانية وإسلامية كانت قد ضربت بوحشية بالآلة العسكرية الأوروبية المتطورة: فمن ثورة عبد الكريم الخطابي إلى ثورة عمر المختار، إلى الانتفاضة الشعبية المدنية في مصر، إلى ثورة العراق بقيادة علماء النجف، إلى الثورة السورية الكبرى... ارتسمت معالم مقاومة إسلامية مفرقة وموزعة، ولكن يجمعها المنطلق الاسلامي الواحد الجهاد والحافز الوطني الأهلي الدفاع عن الديار والأهل، والعدو المشترك المشروع الاستعماري وان تلونت أقطاره وقومياته.
إن انتصار القوى المستعمرة على هذه الثورات بالأسلوب الوحشي الذي تتحدث عنه وثائق التاريخ وتحمله الذاكرة الشعبية أفسح المجال أمام منهج في العمل السياسي النخبوي كانت قدوته بشكل عام وبدرجات متفاوتة: صورة نظام آتاتورك في تركيا.
وهكذا ومع ضرب تعبيرات المقاومة في المجتمعات الاسلامية وبروز نموذج آتاتورك بدأت تتشكل تيارات سياسية قومية علمانية تبتعد عن الاسلام، بل وقد يعزو بعض أجنحتها ومفكريها إلى الاسلام أسباب الهزيمة والتأخر.
هذا الطرح كان من شانه أن يزيد من عقدة الاشكال القومي وذلك من خلال تعميق الفجوة بين الموقف الاسلامي والصيغة القومية المقتبسة من تجارب أوروبا ومنظريها.
وهكذا ارتسمت صورة للقومية منفصلة عن الاسلام لا سيما في بلاد الشام حيث كانت التجربة مع التتريك العثماني قاسية وحيث اتسم المجتمع الأهلي بتعددية دينية استدعت استخدام خطاب سياسي يتحدث عن وحدة وطنية لا دينية.
ولكن هذا الاشكال نفسه لم يكن ليطرح خارج هذه الخصوصية الجغرافية التاريخية.
ففي شمالي أفريقيا اندمج الوعي القومي بالاسلام بل ارتكز إليه. ولم تكن الدولة العثمانية ولا سيما في مرحلة التتريك فيها وقد تركت هناك ذكرى الحصار والمجاعة أو التجنيد الإلزامي وأعواد المشانق كما حصل في كل من دمشق وبيروت، بل كانت ذكراها هي ذكرى الدولة الاسلامية التي تحاول أن تدافع عن ثغور الجنوب الاسلامي للمتوسط وكانت هذه الذكرى محفوظة في الذاكرة الشعبية والكتاب التاريخي منذ القرن السادس عشر.
وهكذا لم تجد التيارات الاسلامية نفسها في شمالي أفريقيا في مواجهة مع القومية. بل أن التعبير الاسلامي كان أحيانا جزءا من التعبير القومي، وفي الغالب كان التعبيران مندمجين في حالة سياسية وثقافية واحدة هي حالة التمايز عن المستعمر وحالة الدفاع عن هويات وطنية وثقافية معا. وهو الأمر الذي كان قد لاحظه فانون بشكل واضح ولا سيما في دراسته لثورة الجزائر.
والذي يستعرض التيارات الفكرية الاسلامية عبر نصوصها وأعلامها في شمالي أفريقيا أمثال ابن باديس وحسن البنا لا يجد مكانا للاشكال القومي كاشكال مثير للتعارض أو الرفض من موقع المعتقد الاسلامي. إذ تجري مصطلحات الوطن والوطنية والوحدة العربية والوحدة الاسلامية كمفاهيم متدرجة في إطار التكاملية الوظائفية المؤدية إلى التوحيد (1).
إذن كيف ومتى وأين كانت تثار الاشكالات بصيغة التعارض بين حالات الوعي الاسلامي وحالات الوعي القومي؟
قلنا أن التعارض كان يحصل عند ما كان الوعي القومي يعبر عن نفسه عبر بعض النخب المحلية المتغربة تماثلا فكريا ومنهجا مع العقائد القومية الأوروبية التي اتخذت لنفسها ولأممها صفة التفوق والاستئثار وحملت معها مشاريع للتوسع والسيطرة كما حملت معها فلسفة سلوكية معادية للدين أو مهشمة له.
هذا على صعيد المنهج. ولكن يبقى أن نشير إلى عوامل أخرى ارتبطت بخصائص جغرافية سكانية تاريخية في مناطق معينة من العالم الاسلامي.
فكما أن لبلاد الشام مثلا وضعية سكانية معينة وتجربة تاريخية خاصة مع مرحلة المركزية والتتريك، فان لايران والهند ولا سيما في قطاعها الباكستاني تجربة تاريخية معينة في حقل العلاقة بين القومية والاسلام (2).
وهذه التجربة اتسمت في قطاعات منها بمعاداة حادة بين الفكر القومي و الفكر الاسلامي.
فهذا هو أبو الأعلى المودودي يعتبر الفكر القومي فكرا شيطانيا ابتليت به أوروبا والنخب المحلية المقلدة لها (3). والمودودي في هذا الموقف الصارم لا يعبر فحسب عن معيار منهجي وعقائدي في التمييز بين الفكر القومي الأوروبي التجزيئي وبين الفكر الاسلامي التوحيدي، بل أنه يعبر أيضا في المجال السياسي والوجهة الواقعية العملية عن الاحتمال التاريخي التجزيئي والانشقاقي للوجهة الوظيفية للقوميات المحلية في الهند والباكستان (4).
ولعل هذه الوجهة التفسيخية لوظيفة القومية هناك هي ما استوقفت مفكرا إسلاميا هو كليم صديقي ودفعته أن يعمم النظرة المعادية للقومية في كل مستويات الطرح دون اعتبار للخصوصيات الإقليمية في التجارب التاريخية. فهو يجعل من القومية على طول الخط صنيعة للاستعمار وأداة لسياسات التفسيخ في الأمة الاسلامية (5).