المصالح الاقتصادية لجماعة أو في الدفاع الذاتي وصيانة الحقوق... فإذا زالت الضرورة لهذا النوع من العصبية تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في الحدوث بلا ريب (1). والمزيل لهذه الضرورة هو معتقد التوحيد الإلهي في الاسلام.
يقول: وتبطل الضرورة بالاعتماد على حاكم تتصاغر لديه القوى وتتضاءل لعظمته القدرة، وتخضع لسلطته النفوس بالطبع، وتكون بالنسبة إليه متساوية الأقدام، وهو مبدأ الكل وقهار السماوات والأرض (2).
وإن التدرج في سلم التوحيد وعلى أساس المبدأ الوظيفي للروابط الصغرى التي تتسع في حقولها التوحيدية إلى وحدة العالمين وفقا للمفهوم القرآني للدعوة الاسلامية يستوعب هنا رابطة العروبة كحاملة دعوة ولسان شريعة ولغة قرآن، لا كرابطة دم وعصبية نسب.
يقول: أن زحف العرب ووفودهم على البلاد إنما كان لتعميم الدعوة الدينية أولا. إن وفود العرب حملت معها أخلاقا فاضلة ظهرت أفضليتها بأجلى المظاهر مثل الأنفة من الكذب، والوفاء بالعهد، ومطلق العدل، وكمال الحرية والمساواة... وإغاثة الملهوف والكرم والشجاعة... لذلك انعطفت قلوب الأمم على استحسان الوافدين من العرب لبلادهم سواء فيه البلاد التي فتحت عنوة ووضعت فيها الحرب أوزارها، أو صلحا، وأول مقدمات العادة الاستحسان ثم المزاولة حتى ترسخ ملكة...
نعم أن أكبر حامل وافعل عامل على تعرب أولئك الأقوام هو الفضائل الأخلاقية والصفات العالية التي كانت تأتي بها العرب مع بأسهم وشجاعة أبطالهم (3).
تلك هي العروبة المقترنة بالرسالة وبالأخلاق والشجاعة والتي يراها جمال الدين حلقة ممهدة للرابطة الاسلامية غير متعارضة معها أو معيقة لها. وهو بذلك يدعو الأقوام الاسلامية الأخرى إلى تعلم العربية لتعميق إسلامها وترسيخه. يقول: أن لكل دين لسانا ولسان دين الاسلام العربي.
فالعروبة بهذا المعنى تشد العرب إلى غيرهم من الشعوب الاسلامية وتشد الشعوب الاسلامية غير العربية إلى العرب. أنها حلقة جذب لا حلقة تنابذ وفي المرحلة التي كتب فيها الأفغاني هذه الكلمات والخاطرات كان الخطر الاستعماري يهدد الشعوب الاسلامية بأسرها كما يهددها اليوم، وكان المستهدف في عملية المواجهة على الجبهة الثقافية وعلى مستوى الاجتماع السياسي في الشرق هو الاسلام بما هو إمكانية جمع وتوحيد وتفجير طاقة ثورية للشعوب. فإذا اقترن الاسلام في هذا السياق بوطنيات هذه الشعوب وقومياتها في مواجهتها لقوى الاحتلال والاستعمار فإنه يتوج بذلك الروابط الجمعية على اختلافها وأوليات الدفاع الاجتماعي الذاتي في حركة جدلية تصاعدية ترقى بالرابطة إلى الأعلى والاسمي والأشمل.
والأفغاني وفقا لهذا المفهوم الاسلامي يقيم خطا للتمييز بين هذا النوع من القوميات أو الوطنيات التي يستوعبها الاسلام وبين النوع الغربي من القوميات التي تتصارع وتتقاتل من أجل التوسع والسيطرة والتي تتناقض مع الدين وفقا لنسق التجربة التاريخية الأوروبية التي أفرزت العلمانية كصيغة حل للصراع بين اللاهوتي والدنيوي، بين الكهنوتي والمدني، بين الدين والعلم. وهذا ما يبرز في رد الأفغاني على ارنست رينان الذي اتهم الاسلام بمناهضته للعلم، والأمة العربية بعدم صلاحية طبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة والفلسفة (4). وفي السجال بين المفكرين يبرز بوضوح اختلاف المفهومين اللذين يتناولان معنى الأمة.
فثمة مفهوم غربي مشحون بعقدة التفوق والتمييز والتصنيف العرقي عند رينان وثمة مفهوم إسلامي مرن ومنفتح ومتدرج ومتداخل عند الأفغاني.
وفي مجال الممارسة السياسية كان الأفغاني نموذجا فعالا في تأكيد مصداقية هذا الفكر. ومن يتابع نشاطه السياسي والدعاوي في العالم الاسلامي يندهش لتلك القدرة الخارقة على الحركة والتأثير والمتابعة التفصيلية لأحداث كل بلد وصياغة الموقف المناسب من كل وضعية والقدرة على الانتقال السريع من قطر إلى قطر.
والأمر الذي يستوقف في كل هذا رؤيته الاستراتيجية الاسلامية الشاملة التي يتكامل فيها الحس التاريخي مع الوعي السياسي والتي تتجلى في تركيزه على دوائر ثلاث كانت قد انطلقت منها مشاريع الدول المركزية في التاريخ الاسلامي ومن خلالها يتم رصد احتمالات المواجهة مع الغرب. وهذه الدوائر هي: مصر، وإيران ومركز السلطنة العثمانية تركيا.
ويتكامل هذا التيار الفكري الاسلامي في أدراجه الأشكال القومي داخل المنطق الاسلامي في نظرية الكواكبي في الجامعة الاسلامية.
فإذا كان الأفغاني قد اقترح أن تبقى السلطنة العثمانية في قلب هذه الجامعة وإطارها فان الكواكبي يقترح أن تنتقل الخلافة إلى إمام عربي قرشي (5) وأن تتشكل جامعة إسلامية يتصور مؤتمرها التحضيري في أم القرى، كما يتصور توزيع وظائفها وفقا لأهليات وخصال الأقوام المسلمين. إذ يقترح الكواكبي وظائف معينة في الجامعة الاسلامية تناط بكل شعب من شعوبها (6).
وإذا كان التصور هذا، يشكو من طوباويته على صعيد الواقع السياسي فإنه على الأقل وعلى صعيد المنهج يدعو إلى اعتماد نظرة وظائفية في التعامل مع خصوصيات الأقوام الاسلامية، نظرة تهدف إلى تحقيق نوع من التوازن في وحدة الجامعة الاسلامية حيث لا تطغى عصبية على عصبية وإن تسترت بالاسلام كصبغة دينية كما كان يقول ابن خلدون.
وستزداد معاناة هذا التيار الاسلامي في مواجهته لحل هذا الاشكال القومي مع تفاقم أزمة الدولة العثمانية وتحولها التدريجي إلى دولة قومية تركية.
فهو يراهن على احتمال الاصلاح الدستوري كصيغة متلائمة مع الشورى في الاسلام ولا يلبث أن تصدمه حركة التتريك وسياسة جمال باشا الدموية فيراهن على احتمال لاحياء الاسلام من الحجاز ثم تحبطه اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور... ويعود ليتوجه بالأنظار إلى تركيا وبالتحديد إلى حركة مصطفى كمال فيتوسم في هذا الأخير أملا في انقاذ ما يمكن انقاذه. ويدفعه الأمل بان يتصل بالترك لترميم العلاقات العربية التركية وحتى لاقتراح أن تبقى الخلافة فيهم، بل وحتى أن يعود مصطفى كمال إلى الاسلام ليبايع سلطانا على المسلمين.