الأوزاعي فأنكر أن يكون نزلت معاتبة وقال بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم من حارب بعدهم. ورفع عنهم السمل ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله " ويسعون في الأرض فسادا " وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه: أن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات فأما في الأمصار فلا لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه وقوله تعالى " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض " قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: من شهر السلاح في فئة الاسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخغي والضحاك وروى ذلك كله أبو جعفر ابن جرير وحكى مثله عن مالك بن أنس رحمه الله ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله في جزاء الصيد " فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " وكقوله في كفارة الفدية " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " وكقوله في كفارة اليمين " فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " هذه كلها على التخيير فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور هذه الآية منزلة على أحوال كما قال أبو عبد الله الشافعي أنبأنا إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن عطية عن ابن عباس بنحوه وعن أبي مخلد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة واختلفوا هل يصلب حيا ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب أو بقتله برمح أو نحوه أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا لغيره من المفسدين وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده في ذلك كله خلاف محرر في موضعه وبالله الثقة وعليه التكلان ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسير إن صح سنده فقال: حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة قال أنس فارتدوا عن الاسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق مالا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته ومن قتل فاقتله ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فأصلبه وأما قوله تعالى " أو ينفوا من الأرض " قال بعضهم هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الاسلام رواه ابن جرير عن ابن عباس وأنس بن مالك وسعيد بن جبير والضحاك والربيع بن أنس والزهري والليث بن سعد ومالك بن أنس. وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية وقال الشعبي ينفيه كما قال ابن هبيرة: من عمله كله وقال عطاء الخراساني ينفى من جند إلى جند سنين ولا يخرج من دار الاسلام وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان أنه ينفى ولا يخرج من أرض الاسلام. وقال آخرون المراد بالنفي ههنا السجن وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأختار ابن جرير أن المراد بالنفي هنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.
(٥٣)