وأما ما حكاه ابن جرير وغيره عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم. قالوا واللفظ لمجاهد فرجت له السماوات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن وزاد غيره فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي ويدعو عليهم فقال الله له إني أرحم بعبادي منك لعلهم أن يتوبوا أو يرجعوا.
وروى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين عن معاذ وعلي ولكن لا يصح إسنادهما والله أعلم. وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " فإنه تعالى جلى له الامر سره وعلانيته فلم يخف عليه شئ من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله إنك لا تسطيع هذا فرده الله كما كان قبل ذلك فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عيانا ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة كما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه عن معاذ بن جبل في حديث المنام " أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملا الاعلى؟ فقلت لا أدري يا رب فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شئ وعرفت ذلك ". وذكر الحديث. وقوله " وليكون من الموقنين " قيل الواو زائدة تقديره وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين كقوله " وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين " وقيل: بل هي على بابها أي نريه ذلك ليكون عالما وموقنا وقوله تعالى " فلما جن عليه الليل " أي تغشاه وستره " رأى كوكبا " أي نجما " قال هذا ربي فلما أفل " أي غاب قال محمد بن إسحاق بن يسار الأفول الذهاب وقال ابن جرير يقال أفل النجم يأفل ويأفل أفولا وأفلا إذا غاب ومنه قول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها * دياج ولا بالآفلات الزوائل ويقال أين أفلت عنا بمعنى أين غبت عنا: قال " لا أحب الآفلين " قال قتادة علم أن ربه دائم لا يزول " فلما رأى القمر بازغا " أي طالعا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي " أي هذا المنير الطالع ربي " هذا أكبر " أي جرما من النجم ومن القمر وأكثر إضاءة " فلما أفلت " أي غابت " قال يا قوم إني برئ مما تشركون * أني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي " للذي فطر السماوات والأرض " أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق " حنيفا " أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد ولهذا قال " وما أنا من المشركين " وقد اختلف المفسرون في هذا المقام هل هو مقام نظر أو مناظرة فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر واختاره ابن جرير مستدلا بقوله " لئن لم يهدني ربي " الآية. وقال محمد بن إسحاق قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه فأمر بقتل الغلمان عامئذ فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك وذكر أشياء من خوارق العادات كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة وهي القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشترى وزحل وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر ثم الزهرة فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا بل هي جرم من الاجرام خلقها الله منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه