ذلك قصائد بعث بها من المعرة إلى صديقه القاضي أبي القاسم التنوخي، في بغداد، وفي هذه القصائد أغراض مختلفة أظهرها الحنين إلى أيامه التي قضاها في بغداد خلال رحلته الشهيرة إليها، وهي الرحلة التي اتخذ بعدها منزله بالمعرة محبسا ثانيا له، ومن قصائده إلى القاضي التنوخي هذا، القصيدة التائية التي مطلعها:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا * وموقد النار لا تكرى بتكريتا وفي هذه القصيدة يصف حنينه إلى العراق ويذكر سبب عودته من بغداد إلى المعرة مرغما، في حين كان يرجو أن لا يفارقها:
ولا مدحت طالبا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس (1)، فالحمد لله الذي ستر بعفة (2) من قوام العيش ورزق شعبة من القناعة أوفت (3) على جزيل الوفر. وما أوجد لي من غلو علق في الظاهر بادمي، وكان مما يحتمله صفات الله عز وجل، فهو مصروف إليه. وما صلح لمخلوق سلف من قبل، أو غير، أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به. وما كان محضا من المين (4) لا جهة له فأستقيل (5) الله العثرة فيه والشعر للخلد مثل الصورة لليد (6): يمثل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره، ومطلق في حكم النظم دعوى الجبان أنه شجيع، ولبس العزهاة ثياب الزير (7) وتحلي العاجز بحلية الشهم الزميع (8) والجيد من قيل الرجال وإن قل يغلب على رديئه وإن كثر، ما لم يكن الشعر له صناعة، ولفكره مرنا وعادة. وفي هذه الكلمات جمل يدللن على الغرض، والله تعالى أستغفر، وإياه أسال التوفيق.
لهذا النص يمليه أبو العلاء نفسه في مقدمة سقط الزند قيمة ذات شان كبير، فهو يلقي ضوءا غامرا على كثير من القضايا التي يختصم الباحثون فيها منذ زمن بشأن أبي العلاء، في شعره وفلسفته ومعتقده الديني. وإنه لمؤكد أن صاحب سقط الزند قد أملى هذا النص أثناء اعتزاله الأخير في منزله بالمعرة بعد الأربعين من عمره، وذلك هو العهد الذي أنشأ فيه خيرة أعماله الفكرية والأدبية، وأملى فيه اللزوميات ذاتها، وهي التي يشتد فيها الجدل بين المفكرين والباحثين، من حيث أنها تحتوي معظم آرائه في الكون والحياة والناس والمعتقدات.
فنحن نرى في هذه المقدمة الصريحة أن الرجل يبرئ نفسه من تهمة الزندقة ويصرف ظواهر شعره إلى مقاصد لا تنافي الاعتقاد بالله، ثم يستغفر الله مما قد لا يكون فيه مجال للتأويل. على أننا ننظر في سقط الزند فنرى فيه شعرا كثيرا يدل على الايمان والتدين من مثل قوله في رثاء أبيه:
جهلنا فلم نعلم على الحرص، ما الذي يراد بنا، والعلم لله ذي المن وقوله في قصيدة يحن فيها إلى وطنه وهو في بغداد:
فيا وطني، إن فاتني بك سابق * من الدهر فلينعم لساكنك البال فإن أستطع في الحشر آتيك زائرا * وهيهات لي يوم القيامة إشغال وليس هذا الأمر موضوع بحثنا وإلا لأتينا من سقط الزند بشواهد كثيرة على ذلك. وإنما الغرض هنا أن نقف قليلا عند ذلك النص الذي نقلناه من إملاء أبي العلاء، فنرى إليه وهو يقدم لديوانه بهذا الكلام الذي يشبه من بعض وجوهه، رواية التبريزي عنه بأنه كان يرى في سقط الزند أنه من شعر الحداثة، ولكن هذا لم يمنعه أن يهتم بأمر هذا الديوان، وأن يقدم له، وأن يرويه لتلاميذه ويجيز روايتهم إياه ويتدارسه معهم في حلقات دروسه.
وثمة ناحية أخرى ذات شان في هذا النص، وهي اعتذار أبي العلاء عما ورد في سقط الزند من مدائح ربما توهم أن الرجل كان كغيره من شعراء لك العصور يقف بشعره على أبواب الحكام وذوي الجاه، إما زلفى ورياء وتمليقا، وإما استجداء للعطايا والهبات، في حين نعلم من أخباره أنه تفرد في شعراء تلك العصور بميزة الترفع بنفسه وخلقه وأدبه عن كل ما هو من قبيل الزلفى والملق والرياء، والاستجداء، بل نعلم من أخباره المستفيضة أنه لقي في كثير من الحالات أزمة الحاجة والاعواز، وإنه إلى ذلك قد أتيح له مرارا أن يملأ كفيه بالمال وأن يملأ حياته بالرفاهة، غير أنه رفض كل ذاك رغم إقلاله وحرمانه.
وها هو ذا، في مقدمة سقط الزند، كما رأينا. يرفع ذلك التوهم بنفسه، ويكشف عن حقيقة تلك المدائح في هذا الديوان، بقوله:...
ولم أطرق مسامع أثارني عنكم أمران: والدة * لم ألقها، وثراء عاد مسفوتا أحياهما الله عصر البين ثم قضى * قبل الإياب إلى الذخرين: أن موتا لولا رجاء لقائها لما تبعت * عنسي دليلا كسر الغمد أصليتا ولأصحبت ذئاب الأنس طاوية * تراقب الجدي في الخضراء مسبوتا سقيا لدجلة، والدنيا مفرقة * حتى يعود اجتماع النجم تشتيتا وبعدها لا أريد الشرب من نهر * كأنما أنا من أصحاب طالوتا ومما بعث به من المعرة إلى بغداد بعد رحلته تلك، قصيدته إلى أبي احمد عبد السلام بن الحسن البصري الذي كان يكثر الإقامة عنده في بغداد، وهي من شعر سقط الزند، ومطلعها.