مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٤٠
ذلك قصائد بعث بها من المعرة إلى صديقه القاضي أبي القاسم التنوخي، في بغداد، وفي هذه القصائد أغراض مختلفة أظهرها الحنين إلى أيامه التي قضاها في بغداد خلال رحلته الشهيرة إليها، وهي الرحلة التي اتخذ بعدها منزله بالمعرة محبسا ثانيا له، ومن قصائده إلى القاضي التنوخي هذا، القصيدة التائية التي مطلعها:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا * وموقد النار لا تكرى بتكريتا وفي هذه القصيدة يصف حنينه إلى العراق ويذكر سبب عودته من بغداد إلى المعرة مرغما، في حين كان يرجو أن لا يفارقها:
ولا مدحت طالبا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس (1)، فالحمد لله الذي ستر بعفة (2) من قوام العيش ورزق شعبة من القناعة أوفت (3) على جزيل الوفر. وما أوجد لي من غلو علق في الظاهر بادمي، وكان مما يحتمله صفات الله عز وجل، فهو مصروف إليه. وما صلح لمخلوق سلف من قبل، أو غير، أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به. وما كان محضا من المين (4) لا جهة له فأستقيل (5) الله العثرة فيه والشعر للخلد مثل الصورة لليد (6): يمثل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره، ومطلق في حكم النظم دعوى الجبان أنه شجيع، ولبس العزهاة ثياب الزير (7) وتحلي العاجز بحلية الشهم الزميع (8) والجيد من قيل الرجال وإن قل يغلب على رديئه وإن كثر، ما لم يكن الشعر له صناعة، ولفكره مرنا وعادة. وفي هذه الكلمات جمل يدللن على الغرض، والله تعالى أستغفر، وإياه أسال التوفيق.
لهذا النص يمليه أبو العلاء نفسه في مقدمة سقط الزند قيمة ذات شان كبير، فهو يلقي ضوءا غامرا على كثير من القضايا التي يختصم الباحثون فيها منذ زمن بشأن أبي العلاء، في شعره وفلسفته ومعتقده الديني. وإنه لمؤكد أن صاحب سقط الزند قد أملى هذا النص أثناء اعتزاله الأخير في منزله بالمعرة بعد الأربعين من عمره، وذلك هو العهد الذي أنشأ فيه خيرة أعماله الفكرية والأدبية، وأملى فيه اللزوميات ذاتها، وهي التي يشتد فيها الجدل بين المفكرين والباحثين، من حيث أنها تحتوي معظم آرائه في الكون والحياة والناس والمعتقدات.
فنحن نرى في هذه المقدمة الصريحة أن الرجل يبرئ نفسه من تهمة الزندقة ويصرف ظواهر شعره إلى مقاصد لا تنافي الاعتقاد بالله، ثم يستغفر الله مما قد لا يكون فيه مجال للتأويل. على أننا ننظر في سقط الزند فنرى فيه شعرا كثيرا يدل على الايمان والتدين من مثل قوله في رثاء أبيه:
جهلنا فلم نعلم على الحرص، ما الذي يراد بنا، والعلم لله ذي المن وقوله في قصيدة يحن فيها إلى وطنه وهو في بغداد:
فيا وطني، إن فاتني بك سابق * من الدهر فلينعم لساكنك البال فإن أستطع في الحشر آتيك زائرا * وهيهات لي يوم القيامة إشغال وليس هذا الأمر موضوع بحثنا وإلا لأتينا من سقط الزند بشواهد كثيرة على ذلك. وإنما الغرض هنا أن نقف قليلا عند ذلك النص الذي نقلناه من إملاء أبي العلاء، فنرى إليه وهو يقدم لديوانه بهذا الكلام الذي يشبه من بعض وجوهه، رواية التبريزي عنه بأنه كان يرى في سقط الزند أنه من شعر الحداثة، ولكن هذا لم يمنعه أن يهتم بأمر هذا الديوان، وأن يقدم له، وأن يرويه لتلاميذه ويجيز روايتهم إياه ويتدارسه معهم في حلقات دروسه.
وثمة ناحية أخرى ذات شان في هذا النص، وهي اعتذار أبي العلاء عما ورد في سقط الزند من مدائح ربما توهم أن الرجل كان كغيره من شعراء لك العصور يقف بشعره على أبواب الحكام وذوي الجاه، إما زلفى ورياء وتمليقا، وإما استجداء للعطايا والهبات، في حين نعلم من أخباره أنه تفرد في شعراء تلك العصور بميزة الترفع بنفسه وخلقه وأدبه عن كل ما هو من قبيل الزلفى والملق والرياء، والاستجداء، بل نعلم من أخباره المستفيضة أنه لقي في كثير من الحالات أزمة الحاجة والاعواز، وإنه إلى ذلك قد أتيح له مرارا أن يملأ كفيه بالمال وأن يملأ حياته بالرفاهة، غير أنه رفض كل ذاك رغم إقلاله وحرمانه.
وها هو ذا، في مقدمة سقط الزند، كما رأينا. يرفع ذلك التوهم بنفسه، ويكشف عن حقيقة تلك المدائح في هذا الديوان، بقوله:...
ولم أطرق مسامع أثارني عنكم أمران: والدة * لم ألقها، وثراء عاد مسفوتا أحياهما الله عصر البين ثم قضى * قبل الإياب إلى الذخرين: أن موتا لولا رجاء لقائها لما تبعت * عنسي دليلا كسر الغمد أصليتا ولأصحبت ذئاب الأنس طاوية * تراقب الجدي في الخضراء مسبوتا سقيا لدجلة، والدنيا مفرقة * حتى يعود اجتماع النجم تشتيتا وبعدها لا أريد الشرب من نهر * كأنما أنا من أصحاب طالوتا ومما بعث به من المعرة إلى بغداد بعد رحلته تلك، قصيدته إلى أبي احمد عبد السلام بن الحسن البصري الذي كان يكثر الإقامة عنده في بغداد، وهي من شعر سقط الزند، ومطلعها.

(1) الزوراء: اسم لبغداد، وهيت وتكريت: بلدتان في العراق.
(2) السوس: الطبيعة.
(3) الغفة (بضم الغين): البلغة من العيش.
(4) أوفت: زادت.
(5) المين (بفتح الميم وسكون الياء) الكذب. لا جهة له: أي لا وجه لتأويله.
(6) استقال العثرة: طلب إقالتها والمغفرة منها.
(7) يقصد أبو العلاء هنا " أن اليد ربما تنقش نقوشا وتخط أشياء أو تمثل تماثيل من الشمع والطين يفقد مثلها في الأعيان الموجودة المألوفة، اتفاقا من غير قصد، لتحقيق صورة ما، والمعنى:
أنه لا ينبغي أن تناقش الشعراء في بعض ما أغربوا به من القول، بل اللائق بمذهبهم المسامحة " (شرح التنوير على سقط الزند - ج 1 ص 13).
(8) العزهاة: الرجل الذي لا يحب النساء، والزير ضده.
(9) الشهم: الحديد الفؤاد والزميع: النشيط المقدام. ومعنى الجمل الثلاث الأخيرة أنه لا إنكار على الشعراء في أن ينسبوا لأنفسهم ما ليس فيهم، فقد يدعي الجبان الشجاعة، ويدعي الكاره للنساء أنه زير نساء، ويدعي العاجز أنه قوي الجنان نشيط مقدام.
(10) الثراء: المال. المسفوت: القليل البركة.
(11) يشير إلى أن والدته وبقية مال له قد خسرهما. قبل وصوله إلى المعرة.
(12) يقصد لقاء أمه. (26) سيف أصليت: صقيل ماض. العنس: الإبل.
(13) يقصد بذئاب الأنس: اللصوص والخضراء: السماء. والجدي: من بروج السماء.
مسبوتا: من السبات، أي النعاس.
(14) أي بعد مفارقتي دجلة عزمت على أن لا أشرب الماء من نهر، وفاء بعهد دجلة، حتى كأنني من أصحاب طالوت.. ويشير بذلك إلى الآية الكريمة: (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني). (سورة البقرة).
(٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370