وفي القرطاس أن مقتل راشد كان في السنة التي بويع فيها إدريس بن إدريس، قال: وكانت بيعة إدريس يوم الجمعة غرة ربيع الأول سنة 188 بعد مقتل راشد بعشرين يوما وإدريس يومئذ ابن إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر قاله عبد الملك الوراق في تاريخه:
وفي قتل راشد يقول إبراهيم بن الأغلب في بعض ما كتب به إلى الرشيد يعرفه بنصحه وكمال خدمته:
ألم ترني بالكيد أرديت راشدا * وأني بأخرى لابن إدريس راصد تناوله عزمي على بعد داره * بمحتومة يحظى به من يكايد نفاه أخو عك بمقتل راشد * وقد كنت فيه شاهدا وهو راقد يريد بأخي عك محمد بن مقاتل العكي والي أفريقية، فإنه لما حاول ابن الأغلب قتل راشد وتم له ذلك كتب العكي إلى الرشيد يعلمه أنه هو الذي فعل ذلك، فكتب صاحب البريد إلى الرشيد بحقيقة الأمر، وأن ابن الأغلب هو الفاعل لذلك والمتولى له، فثبت عند الرشيد كذب العكي وصدق ابن الأغلب، فعزل الرشيد العكي عن أفريقيا وولى ابن الأغلب عليها، وإنما كان قبل ذلك عاملا للعكي على بعض كورها، هكذا حكى صاحب القرطاس، وفيه أن عزل العكي أن أفريقية وتولية ابن الأغلب عليها كان في سنة أربع وثمانين قبل وفاة راشد بسنتين، أو بأربع سنين على الخلاف المتقدم.
وقال البكري والبرنسي: إن راشدا لم يمت حتى أخذ البيعة لإدريس بالمغرب، وأن إدريس لما تم له من العمر إحدى عشرة سنة ظهر من وفور عقله ونباهته وفصاحته ما أذهل عقول الخاصة والعامة، فاخذ له راشد البيعة على البربر يوم الجمعة سابع ربيع الأول من السنة المذكورة، فصعد إدريس المنبر وخطب الناس فقال: الحمد لله أحمده وأستغفره وأستعين به وأتوكل عليه، وأعوذ به من شر نفسي ومن شر كل مشر، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الثقلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا، ص، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهير أيها الناس: إنا قد ولينا هذا الأمر الذي يضاعف فيه للمحسن الأجر وعلى السيء الوزر، ونحن والحمد لله على قصد، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا فان الذي تطلبونه من إقامة الحق إنما تجدونه عندنا.
ثم دعا الناس إلى بيعته وحضهم على التمسك بطاعته. فعجب الناس من فصاحته وقوة جأشه على صغر سنه، ثم نزل فتسارع الناس إلى بيعة وازدحموا عليه يقبلون يده، فبايعه كافة قبائل المغرب من زناتة وأوربة ومنهاجة وغمارة وسائر قبائل البربر فتت له البيعة، وبعد بيعته بقليل توفي مولاه راشد، والله أعلم.
وفود العرب على إدريس لما استقام أمر المغرب لإدريس بن إدريس وتوحد ملكه، وعظم سلطانه، وكثرت جيوشه، وأتباعه وفدت عليه الوفود من البلدان، وقصده الناس من كل مكان فاستمر بقية سنة ثمان وثمانين يصل الوفود ويبذل الأموال ويستميل الرؤساء والأقيال.
ولما دخلت سنة تسع وثمانين ومائة وفدت عليه وفود العرب من أفريقية والأندلس نازعين إليه وملتفين عليه فاجتمع لديه منهم نحو خمسمائة فارس من قيس والأزد ومذحج ويحصب والصدف وغيرهم فسر إدريس بوفادتهم وأجزل صلتهم وأدنى منزلتهم وجعلهم بطانة دون البربر فاستوزر منهم عمير بن مصعب الأزدي المعروف بالملجوم، من ضربة ضربها في بعض حربهم وسمته على الخرطوم.
وكان عمير من فرسان العرب وسادتها ولأبيه مصعب مآثر بأفريقية والأندلس وواقف في غزو الفرنج واستقضى منهم عامر بن محمد بن سعيد القيسي وكان من أهل الورع والفقه والدين، سمع من مالك بن أنس وسفيان الثوري وروى عنهما كثيرا، وكان قد خرج إلى الأندلس مجاهدا، ثم أجاز إلى العدوة، فوفد بها على إدريس فيمن وفد عليه من العرب فاستقضاه واستكتب منهم أبا الحسن عبد الله بن مالك الخزرجي.
ولم تزل الوفود تقدم عليه من العرب والبربر حتى كثر الناس لديه وضاقت بهم مدينة وليلى.
وانتهى إلى ابن الأغلب ما عليه إدريس من الاستفحال فأرهق عزمه للتضريب بين البربر واستفسادهم على إدريس. فكان منهم بهلول بن عبد الله الواحد المضغري من خاصة إدريس ومن أركان دولته، فكاتبه ابن الأغلب واستهواه بالمال حتى بايع الرشيد وانحرف عن إدريس واعتزله في قومه، فصالحه إدريس وكتب إليه يستعطفه بقرابته من رسول الله فكف عنه، وكان فيما كتب به إدريس إلى بهلول المذكور قوله:
أبهلول قد حملت نفسك خطة * تبدلت منها ضلة برشاد أضلك إبراهيم مع بعد داره * فأصبحت منقادا بغير قياد كأنك لم تسمع بمكر ابن أغلب * وقدما رمى بالكيد كل بلاد ومن دون ما منتك نفسك خاليا * ومناك إبراهيم شوك قتاد ثم أحس إدريس من إسحاق بن محمد الأوربي بانحراف عنه وموالاة لابن الأغلب فقتله سنة 190 وصفا له المغرب وتمكن سلطانه به.
بناء مدينة فاس لما كثرت الوفود من العرب وغيرهم على إدريس وضاقت بهم مدينة وليلى أراد أن يبني لنفسه مدينة يسكنها هو وخاصته ووجوه دولته فركب يوما في جماعة من حاشيته وخرج يتخير البقاع فوصل إلى جبل هناك فأعجبه ارتفاعه وطيب هوائه وتربته، فاختط بسنده مدينة مما يلي الجوف، وشرع في بائها فبنى بعضا من الدور ونحو الثلث من السور، فاتى أسيل من أعلى الجبل في بعض الليالي، فهدم السور والدور، وحمل ما حول ذلك من الخيام والزروع وألقاها في نهر سبو، فكف إدريس عن البناء، واستمر الحال على ذلك مدة يسيرة، ثم خرج ثانية يتصيد ويرتاد لنفسه موضعا يبني فيه ما قد عزم عليه، فانتهى إلى نهر سبو حيث هي حمة خولان، فأعجبه الموضع لقربه من الماء ولأهل الحمة التي هناك (1) فعزم إدريس على أن يبني هناك مدينة وشرع في حفر الأساس وعمل الجيار وقطع الخشب وابتدأ بالبناء، ثم فكر في سبو وما يأتي به من المدود والسيول زمان الشتاء وما يحصل بذلك من الضرر