ثالثة لهذا الولد، وهي أبو الفتح، مستشهدا بالثعالبي. فكيف أصبح ابن كشاجم أبا النصر وأبا الفرج وأبا الفتح؟! فان اعتمد الثعالبي، كما ادعى، فقد أخطأ الرواية في قراءة النصوص، أما الشيخ عبد الحسين الأميني فذكر ولدي كشاجم أبا الفرج وأبا نصر أحمد، وعقب على ذلك بقوله أن كشاجم كان يكنى نفسه بالثاني. وفي معجم المؤلفين، قال عمر رضا كحالة أن لكشاجم كنيتين:
أبا الفتح وأبا النصر!
أحواله ولد ببغداد ونشأ، وتلقى علومه الأولى الأدبية، واللغوية، والعلمية، على كبار أساتذة الفقه والأدب والرواية والطب والتنجيم، منهم الفقيهان المروزيان موسى بن إبراهيم، وإبراهيم بن أحمد، وعلي بن سليمان الأخفش النحوي، والمنجم يحيى بن علي، والشطرنجي الأخباري أبو بكر الصولي، والطبيبان إسحاق بن حنين وثابت بن سنان وغيرهم. كما تأكد لنا أن خروجه الأول من بغداد إلى بلاد الشام كان في حدود سنة 300 ه، كما أنه كان يتردد إلى العراق عائدا إلى مسكنه وأملاكه ببغداد، ثم ينطلق منها ليزور مدن العراق، وقراها، وأمكنتها النزهة، ويرتاد أديرتها، منها الأكيراح، والأهواز، والبصرة، والكوفة، والموصل وغيرها، كذلك تبين لنا أن كشاجم قد شهد ما حل من نكبات بالقهرمانتين فاطمة وأم موسى الهاشمية 299 ه، 310 ه، كما شهد محنة أستاذه الأخفش 315 ه، ومقتل أميره أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان 317 ه، ومحنة ابن مقلة، وقد امتدت من 318 ه، 328 ه.
وقد مدح شاعرنا بعض الوزراء، والرؤساء، والأشراف، والأمراء، والسلاطين، كابن مقلة، وأحمد بن إسماعيل الإسكافي، وإبراهيم بن عيسى الهاشمي، وأبي القاسم التنوخي، ومعز الدولة البويهي وغيرهم.
وجملة القول أن كشاجم قد سكن حلب مدة من الزمن، قد تكون في حدود سنة 300 ه حتى سنة 313 ه، وتعرف فيها إلى الشاعر الصنوبري، فتأثر شعره الشامي، وحذا حذو مدرسته في الروضيات. ثم عاد إليها مرات قبل مجيء سيف الدولة إليها سنة 333 ه، وفي أيامه، وكان لكشاجم في حلب دار وأملاك، وقد تغنى شعرا بحلب، وبنهرها قويق، وببساتينها النضرة، وأزهارها الرائعة، وأشجارها الباسقة. وكان يزور ضواحيها المعروفة بمتنزهاتها، فيزور بانقوس، وبطياس، ودير البريج. ثم يغرب منها إلى أنطاكية، فينعم بنهرها الأرند، وإلى اللاذقية حيث أصدقاؤه الأمراء التنوخيون، ثم ينحدر من حلب إلى دمشق، فيزور حمص، وينعم بنهرها الميماس، وديرها على شط النهر. ثم يزور قارة، مصطاف الهاشميين، ودمشق حيث التقى صديقه الهاشمي علي بن حمزة، وينعم بغوطة دمشق، وبديرها مران في سفح جبل قاسيون.
وتبين لنا أن كشاجم كان يقوم بتلك الرحلات النزهة، والزيارات للقرى والبلدان مع جماعة من الأصدقاء، والندماء، على رأسهم الصنوبري الشاعر، الأنطاكي الحلبي، الذي نمت بينهما صداقة وود عميقان، نعم كشاجم بهما مدة طويلة من الزمن، فكان إذا أحس بالفتور يدب في قلب الصديق، أسرع، فكتب له معاتبا، متسائلا، معتذرا، باذلا نفسه عمن ود وأحب. وتبين لنا أن الصديقين كانا يصفان الأمكنة نفسها، ويمدحان الشخصيات نفسها، كالهاشميين علي بن حمزة، وعبد الملك بن محمد، ومحمد بن أحمد الرشيدي.
على أن كشاجم التقى في حلب بعض الذين أخذ عنهم الشعر، واللغة، والفقه، كالصنوبري، وأبي بكر الدقيشي، وإبراهيم بن جابر. والتقى بعض الرواة الذين أخذوا عنه كالمسعودي، وأبي بكر الزبيدي، والمظفر بن نصر بن سيار الوراق، والسري الرفاء.
والتقى كشاجم بعض الأمراء القادة فمدحهم كالحسن بن الحسن بن رجاء، وعلي بن أحمد بن بسطام. والتقى من الأمراء التنوخيين عبيد الله بن إبراهيم، والحسين بن علي، فمدحهما، كذلك التقى بعض الأشراف الهاشميين ومدحهم كعبد الملك بن محمد، وعلي بن حمزة، ومحمد بن أحمد الرشيدي.
ولعله التقى كذلك سيف الدولة في الموصل وبغداد، قبل أن يلتقيه في حلب، حيث انضم إلى رجال الفكر، والأدب، والشعر، مجتمعين في بلاط سيف الدولة الحمداني، مؤلفين عصبة امتازت بشعرها الشامي الذي عده الثعالبي أكثر تفوقا من أي شعر آخر. وأصبح كشاجم أحد كبار شعراء المدرسة الشامية الوافدة إلى بلاد الشام، يحتذيه الشعراء، ويضربون على قالبه.
ونرجح أن كشاجم بقي في بلاط سيف الدولة مدة قصيرة، حيث نادمه، وكتب له، وألف، ثم انسحب من البلاط الذي كان يعج بكبار الشعراء، والمفكرين، والمداحين، فانسحب متنقلا كعادته، مشرقا إلى العراق، ومغربا إلى مصر، حيث أكب على لذاذات الحياة، وهو يقول:
وما اللذاذات إلا * لمن صبا وتمرد!
ويقول أيضا:
ولا تك آلفا إلا أديبا * وبستانا وماخورا ودير كان يتنقل بين الشام ومصر، كما كان يتنقل أيضا بين الشام والعراق. وقد سكن بغداد حيث ولد، وامتلك فيها دارا على شط دجلة، لعله ورثها عن آبائه، كما سكن حلب، ويخيل لنا أنه استقر في أواخر عمره بمصر حيث امتلك دارا بالفسطاط. ومن الفسطاط كان يتنقل بين ربوع مصر، فيزور مدنها، وقراها، وأمكنتها، ومحلاتها، ومتنزهاتها العامرة بالبساتين والزهور، وكان ينعم بالنيل، فينتقل بواسطته من قرية إلى أخرى، فتارة يركب الخيول المضمرات، وأخرى يركب البحر، حيث يجمع بين صيد البر وصيد البحر.
وكان كثير الغشيان لدور اللهو، والغناء، والقصف، وقد عبر عن مغامراته الكثيرة في مصر، في شبابه، وفي كهولته. فكان له لقاءات مع الندماء والرفاق في تلك الأمكنة، منها بولاق والقاش والجيزة وحلوان ودمنهور وشبرا شبرى، ودير القصير وغيرها. وقد التقى كشاجم شخصيات، اكتفى بتكنيتها، فحاولنا مجتهدين أن نسمي بعضها، كأبي الحسين، لعله علي بن حمزة الهاشمي، وأبي أحمد، لعله القاضي عبد الله بن الخصيب، وأبي الفضل، لعله وزير الإخشيدية جعفر بن الفضل المعروف بابن حنزابه. وقد رجحنا أن يكون علي بن طارق، وأحمد بن طارق، من المغاربة الذين سكنوا الفسطاط. أما مرحب فتبين لنا أنه ابن مرحب الطبيب المعروف في ذلك الزمان. أما كافور الإخشيدي، فلم يسمه مباشرة، إنما أشار إليه تلميحا، وذكر سيادته على مصر والشام، في معرض هجاء. ومهما يكن من أمر، فقد ابتهج كشاجم في مصر، وفرح بدور اللهو، فكان يقضي نهاره في صيد البر وصيد البحر، ثم يغشى في أماسيه دور اللهو