هجومها، ووضع الإنكليز شرذمة من الرجال بأيديهم آلات من الخشب تدار فتحدث أصواتا كأصوات الرصاص المنطلق من الأسلحة النارية، فلما خرج الثوار إلى مكان الأصوات كان الجيش الانكليزي يترصدهم وقد كمن لهم في طريقهم وراء أشجار الصفصاف القائمة على ضفاف الأنهار، فلما صار الثوار على مقربة من الجيش الانكليزي أمطرهم بوابل من الرصاص، فقتل من قتل وجرح من جرح وتشتت الباقون، ودخل الجيش الانكليزي دلتاوة وفعل باهلها الأفاعيل من قتل الرجال وتشريد العيال وقطع الأشجار وحرق الديار، وكان هو فيمن خرج لمشاهدة الطيارة التي قيل أنها أسقطت فلم يجد سوى الخراطيش الفارغة، ولما رأى دلتاوة قد صارت في قبضة الجيش الانكليزي يصنع بها ما يشاء أشفق من الرجوع إلى داره ولاذ هو وصبية آخرون بالبساتين التي قضوا فيها ليلة ليلاء ثقيلة السحاب ماطرة شديدة الريح... وبعد أن عادت الأمور إلى مجاريها واستتب الأمن في دلتاوة أمر الإنكليز بفتح مدارسها، أما هو فقد انصرف إلى العمل في بساتينه عاقدا العزم على المضي في عمله هذا، ولكن ذات يوم رآه ابن مدير المدرسة الذي حبب إليه دخول المدرسة فدخلها على قلة ما يصيبه من الغلة وضيق ذات يده وشدة حاجته حتى أنه لم يكن في وسعه أن يشتري حذاء له بدلا من حذائه القديم البالي المتهري، ولما صار في الصف الخامس علم أن في بغداد دار المعلمين الابتدائية تقبل الطلاب فيها بعد الامتحان، فغادر دلتاوة إلى بغداد وبعد أن نجح في الامتحان قبل في هذه المدرسة التي قوي فيها ميله إلى دراسة العربية وظهرت رغبته في نظم الشعر حتى أنه أخذ يكتب مواضيع الإنشاء نظما ونثرا مما جعل مدرس الإنشاء يعجب به ويثني عليه، وعند تخرجه من هذه المدرسة عين معلما في مدرسة الناصرية الابتدائية التي بعد أن قضى فيها نحو سنة ونصف السنة نقل إلى مدرسة السيف الابتدائية في البصرة، ومنها إلى مدرسة الكاظمية الابتدائية، ومنها إلى مدرسة دلتاوة الابتدائية، ثم اختير للتحرير في وزارة التربية والتعليم التي كانت تدعى حينئذ وزارة المعارف، ثم أصبح معلم اللغة العربية في المدرسة المأمونية الابتدائية. وعند ما كان معلما في هذه المدرسة نشر كتاب الحوادث الجامعة وبحوثا علمية في مجلة لغة العرب، وفي سنة 1932 صار مدرس اللغة العربية في المدرسة المتوسطة الشرقية، واستمر على نشر آثاره نثرا وشعرا ونظما في مجلة لغة العرب ومساعدة صاحبها اللغوي الشهير الأب انستاس ماري الكرملي في تحريرها مجانا.
وفي سنة 1934 سافر إلى باريس ودخل كلية السوربون لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب في موضوع سياسة الدولة العباسية في أواخر عصورها، فظفر بما أراد، وبعد رجوعه إلى العراق في سنة 1939 عين أستاذا في دار المعلمين العالية، ثم نقل منها إلى مديرية الآثار القديمة العامة التي عين ملاحظا فنيا فيها، ثم رجع إلى التدريس في دار المعلمين العالية التي صارت تسمى كلية التربية بعد إنشاء جامعة بغداد، وفي عمله هذا بقي إلى آخر أيامه وأن أقعده المرض العضال في داره وحال بينه وبين النهوض بعمله الرسمي.
وقد انتخب عضوا مراسلا في المجمع العلمي العربي في دمشق، ثم عضوا عاملا في المجمع العلمي العراقي، ونشر كثيرا من شعره في المجلات والصحف، ونقل إلى العربية رباعيات الشاعر الرياضي الفيلسوف عمر الخيام ورباعيات الأديب الإيراني حسين قدسي نخعى، وترجم وشارك في ترجمة الكثير من الكتب والتعقيب عليها، وله فصول مستفيضة في التراث الشعبي العراقي ومعلومات واسعة عن المقام العراقي وأشهر الذين أتقنوه وبرعوا فيه.
وقد جمع شعره بخطه الرقعة في دفتر أراد أن يخرجه ديوانا يسمى الشعور المنسجم في الكلام المنتظم، بيد أن المنية أدركته قبل أن يحقق أمنيته، فما زال هذا الديوان مخطوطا ومن شعره قصيدته باريس قبل الحرب التي نظمها سنة 1939 وفيها يقول:
رمت حسرة بالفجر فارتعب الفجر * وآهت لآتى البين فاضطرب الصدر وددت لو الدنيا يزول انتظامها * وبالليلة الليلاء يستنفد العمر تجلدت حتى حطم الكظم أضلعي * وكاد من العينين ينتثر الجمر فيا حسرة طال اكتئابي بذكرها * ويا آهة ما زال يعقبها البهر لئن مزقت قلبي وأوهت حشاشتي * لقد تركت عزما يدين له الدهر أرى بارق الآمال يدعو عزيمتي * إلى خطة خشناء يعقبها النصر حللت بباريس وباريس جنة * على غير حكم الله يجري بها الأمر حدائقها غلب تناهى جمالها * ففاح بها روح الطبيعة والعطر وفيها ذوات الحسن من كل كاعب * بهالة شعر والمحيا هو البدر تكللها سود الشعور وشقرها * فأسودها وحف وأشقرها تبر يكاد يطير القلب أما تباغمت * بأنغام صوت حشوه السحر والشعر فمن شاء حسنا فهو فيها موفر * ومن شاء علما فهي في علمها بحر ومن شاء آدابا رأى خيرها بها * فان الفرنسيين ما فيهم كبر ومن شاء إيمانا فللدين حرمة * ومن شاء الحادا فما عدم الكفر وقصيدته ولدي:
يقول: بابا، إذا ما مضه الألم * أو يذرف الدمع وهو الشاهد العلم بابا وماما ولا منطوق غيرهما * هما لعمري لديه المنطق الخذم بابا فدى لك يا روحي وعاقبتي * إذا بقيت وأفنى جسمي العدم لا تحرجوه فبابا عنده وزر * أو تؤلموه فدمع العين يحتدم كان بابا هو الدنيا بأجمعها * وأن ماما اله رازق لهم يقولها راضيا أو غاضبا حردا * فالخير بالشر في باباه ملتئم يقول: بابا ويومئ لي فأحمله * كما يشاء فانا عنده خدم وأن خرجت يناديني بلهجته * بابا فتثبت من تلقائها القدم أن يحتكم فهو حكم لا يعقبه * نقض وإنفاذه فرض وملتزم يجمجم الصوت في تبيان مأربه * من غير ميز ولكنا له فهم وطالما كنت استصبى فارقصه * فإنما أنسه الترقيص والرنم وقصيدته الشاعر التي منها:
من بنى الأرض واصطفته السماء * فتجلى فيما يقول البهاء عاشق للكمال صب برشد * ضاق عن بعض ما يريد الفضاء يتحرى الجمال في كل ليلى * فهو مجنونها وليلى الشفاء كان أحرى بان يكون نبيا * في سجاياه ما يرى الأنبياء ومن آخر شعره البيتان الحزينان المؤلمان التاليان اللذان يفيضان أسى ولوعة لطول ما عانى من الآلام وفرط ما تجرع من العذاب والأحزان وليقينه بدنو منيته وقرب نهايته:
رشحتني الأقدار للموت لكن * أخرتني لكي يطول عذابي ومحت لي الآلام كل ذنوبي * ثم أضحت مدينة لحسابي