ولدا كشاجم أبو الفرج وأبو نصر لم يذكر كشاجم في شعره من أولاده مباشرة سوى ولد واحد دون أن يسميه، لعله أبو الفرج، ولعله كان بكره. ومن المفيد أن نذكر أن كشاجم أشار إلى أصيبية كزغب الأفراخ كانوا سببا عائقا في طلابه المجد والرتب، والارتحال في سبيلها. وقد تبين لنا أنه لم يبق منهم سوى اثنين، وقد شكا الزمان، وندب حظه، وعدم وصوله إلى الرتب العالية التي يستحقها، إذ فضل أن يبقى مع صغاره مشفقا عليهم، حدبا بهم:
وعاقني عن طلابها أصيبية * يأبى فراقهم الاشفاق والحدب ولي قوادم لو أني خدمت بها * لأنهضتني ولكن أفرخي زغب!
على أن كشاجم مدرك أنه استعجل الأولاد قبل المال، وكان عليه أن يوفر لهم المال والجاه قبل أن يروا النور، ويرى في ذلك خروجا ومخالفة لما جاء نصه في القرآن الكريم، وقد بدئ بالمال قبل البنين: وإنما المال والبنون زينة الحياة الدنيا.
ونرجح أن كشاجم رزق بأبي الفرج أولا، وقد تبين لنا أن المقطوعة التي شاء النساخ أن يسموها في مدح بعض أصدقائه، هي في الحقيقة في ولده أبي الفرج، من هذه المقطوعة اتضح لنا أيضا أنه أول ولد، إذ فرج كربه، وجعله يستقر مدة من الزمن، لولاه لظل كشاجم يرتحل من مكان إلى آخر، لكنه اختار أن ينعم بمجيء الولد الجديد، وكان بوده لو يجول الآفاق، ويجمع الأموال قبل مجيء الولد، لكنه تعجله، فخالف بذلك نص الكتاب كما مر بنا:
لولا أبو الفرج الذي فرجت به * كربي لما جفت لبود جيادي ولجلت آفاق البلاد وجبتها * حتى أكثر بالغنى حسادي لكن سبقت به الثراء ففاتني * وعجلت قبل المال بالأولاد!
خالفت ما جاء الكتاب بنصه * فلذاك قد ملك الزمان قيادي!
ولعل ما في البيت الثالث لدليل قاطع على أن أبا الفرج هذا هو ابنه المولود، وليس صديقا كما ادعى النساخ! ثم يكبر أبو الفرج، ويرعاه أبوه، كما يرعى الأب الحنون الصالح ولده، ويربيه أحسن تربية، متوسما فيه ما كان أبوه من قبل قد توسم فيه. وقد اختار لابنه أما حرة، فاضلة، كريمة الحسب، ابنة النجباء، فتقبله قبولا حسنا، وشكر الله على عطيته الكبيرة، ورزقه العظيم، ونعمه الكثيرة:
ربيته متوسما في وجهه * ما قبل، في توسمت آبائي ورزقته حسن القبول مهنيا * فيه عطاء الله ذي الآلاء وغدوت مقتنيا له من أمه * وهي النجيبة وابنة النجباء وقد وضع كشاجم لابنه منهجا يسير عليه، فكان له المربي، والمرشد، والمعلم، وقد عمرت مجالسه به، فكان يبهج به نهارا، ويريه أسباب العلياء، وكيف يصلها المرء، ويحدثه، ثم يزيره العلماء ليأخذ عنهم، فيتفوق على جميع طلاب العلم، حتى إذا أجن الليل، راح يسامره، ويحاوره، وحين ينتهيان من برنامجهما اليومي يعودان إلى البيت، فيدنيه إليه ويضمه، فكأنه يدني مهجته إلى مهجته، وأحشاءه إلى أحشائه، فيصبح كلاهما واحدا:
وعمرت منه مجالسي ومسالكي * وجمعت فيه مآربي وهوائي فأظل أبهج في النهار بقربه * وأريه كيف تناقل العلياء وأزيره العلماء يأخذ عنهم * فيبد من يغدو إلى العلماء وإذا أجن الليل بات مسامري * ومحاوري وممثلا بإزائي فأبيت أدني مهجتي من مهجتي * وأضم أحشائي إلى أحشائي وخوفا من أن يؤخذ عليه إعجابه بولده، وافتتانه به، أسرع ليقول أن إعجابه به مثل إعجابه بشعره، إذ كلاهما بعض منه. وما الاعجاب هذا إلا صادر عن تعقل، ورزانة، لا عن خفة أو تهور:
والمرء يفتن بابنه وبشعره * لكن هذا فتنة العقلاء!
والوالد كشاجم يعتبر وجود ولده شفاء لما يصيبه من الجروح والأسى، آملا أن يكون قربه في شدته وفي رخائه:
روحي الفداء لمن إذا جرح الأسى * قلبي أسوت به جروح أسائي كبدي وتاموري (1) وحبة ناظري * ومؤملي في شدتي ورخائي على أن كشاجم، كما أشرنا إليه سابقا، لم يذكر في شعره سوى ولد واحد، إنما ذكر له الثعالبي في يتيمته، وهي أقدم نص، ابنين، هما أبو نصر وأبو الفرج، وكان الثعالبي يروي شعرا لمحمد بن هارون بن الأكتمي المصري فقال: وله يهجو ابني كشاجم أبا النصر، وأبا الفرج، ونرجح أنهما كانا بمصر بعد موت أبيهما، ولم ترقهما الأحوال، فرحل أبو الفرج إلى الري (2) حيث التقى أبا بكر الحمدوني جامع ديوان والده، فأنشده لأبيه 99 بيتا، ألحقها الجامع فيما بعد بالديوان، أما أبو نصر فرحل إلى الشام، وأصبح كاتب الأعصم أبي علي القرمطي بالرملة.
أما المقريزي في مخطوطه المقفى فقد عرفنا بأبي الفرج الذي تحدث عنه كشاجم في شعره، كما ذكرنا سابقا، وقال أنه أحمد بن محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك بن زادان بن شهريار أبو الفرج بن أبي الفتح كشاجم. وليس هناك ما يدعو إلى الشك في أن أبا الفرج هو أحمد بن أبي الفتح كشاجم. وكان أبو الفرج هذا بمصر أيام كافور، وأيام القاضي محمد بن عبد الله بن الخصيب ووالده، وحين عرف أبو الفرج ما يتمتع به القاضي محمد من قوة الاحساس باللمس، وكان إذا صفع عرف من يصفعه بوقع يده على رقبته، من غير أن يبصره، عمل فيه شعرا ليقول له أنه أيضا يقرأ نقش فص الخاتم باللمس خاصة دون الرؤية، فاتفق الاثنان في قضية بهرت عقول العالم وقام بينهما نسب في تلك القضية، فقال:
إني إلى القاضي أمت بحرمة * هي بيننا نسب كفرض لازم حس لطيف في قفاه وفي يدي * هو آية بهرت عقول العالم!
فقفاه يفتقد الأكف بحسه * ويداي تقرأ نقش فص الخاتم!
فإذا أخذنا بتلك الرواية، أخرجنا المقطوعتين اللتين نسبتا إلى كشاجم خطا وسهوا، إذ إنهما لأحد ابنيه، لعله أبو نصر، ونرجح أن أبا الفرج الذي