وكان لا بد لابني كشاجم من مغادرة مصر بعد وفاة الوالد، وتهجم الشاعر عليهما. وقد اتجه أبو نصر إلى بلاد الشام حيث التقى علي بن محمد الشاشي بصيداء الشام (1)، فأنشده من شعره. وحين التقى الشاشي الثعالبي بميافارقين أنشده شعر أبي نصر، إذ كان الثعالبي حينذاك يجمع شعر الشعراء الذين لا دواوين لهم من شعراء الشام.
وتبين لنا أيضا أن أبا نصر التقى الطبيب عيسى الرقي ببلاد الشام، بحلب أو بغيرها، ببلاط سيف الدولة أو خارجه. وكان عيسى الرقي أحد الأطباء المقربين في بلاط سيف الدولة، إنما كان على خلاف مع أبي نصر، ولم يكن أبو نصر معجبا به، ولا بطبه، فذمه، وهجاه، إما عن تجربة أو سماع، فقال يهجوه، مقارنا بينه وبين عيسى المسيح، لاشتراكه بالاسم، فقال:
عيسى الطبيب ترفق * فأنت طوفان نوح يأبى علاجك إلا * فراق جسم لروح!
شتان ما بين عيسى * وبين عيسى المسيح فذاك محيي موات * وذا مميت صحيح!
شعر أبي نصر بن كشاجم ومن المفيد أن نثبت شعر أبي نصر كما جمعه له الثعالبي. فأبو نصر كان مثل أبيه كشاجم شاعرا، متأثرا بمنهجه، منهج المدرسة الشامية، متظرفا بظرفه، متأنقا في خطه بتأنقه. ولم يذكره النديم في فهرسته. وقد قال الثعالبي أنه جمع أشعاره وأشعار غيره ممن لم يجد لأصحابها دواوين، فأثبت كل ما رواه له المنشدون من جلسائه. وقد أنشدوا له من شعر أبي نصر في وصف الكتاب، والشمعة، والصديق البخيل، وكان قد دعاه إلى الطعام، فجاء وصفه له وصفا بارعا، مضحكا، وفي الطبيب عيسى الذي يعجل في تفريق الروح عن الجسد، وفي جونة الطعام، القصيدة الطويلة المزدوجة، وفي الخط، وفصد إسحاق بن كيغلغ. أما تظرفه فقد بلغ مداه حين كتب شعره على تفاحة حمراء بالذهب، وأنفذها إلى وزير كافور، ابن حنزابه!
أما العسقلاني فقد روى له مقطوعتين في هجاء القاضي عبد الله بن الخصيب، قاضي الأخشيد وكافور. وارتأينا أن نجمع للشاعر أبي نصر، ابن أبي الفتح كشاجم ما جاء في اليتيمة، وفي غيرها، على ترتيب الحروف. لعلنا بذلك نشير إلى ما نسب إلى أبيه كشاجم من شعره، ولتأثره مذهب أبيه الشعري في لطائفه.
ولأبي نصر، ابن أبي الفتح كشاجم في شمعة:
بركة صفر عمودها شمع * تفيض نارا من موضع الماء تبكي إذا ما المقص خمشها * فرط حياء من الأخلاء كأنها عاشق مخايله * فيه بواد لمقلة الرائي صفرة لون وذوب معنبة * ودفع حزن، ونار أحشاء وله في الكتابة:
غبط الناس بالكتابة قوما * حرموا حظهم بحسن الكتابة وإذا أخطأ الكتابة خط * سقطت تاؤها فصارت كآبة وكتب على تفاحة حمراء بالذهب إلى الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل ابن الفرات وأنفذها إليه، وقد خرج إلى متنزهه بالمقس:
إذا الوزير تجلى * للنيل في الأوقات فقد أتاه سمياه * جعفر بن الفرات وله في وصف الكتاب:
وصاحب مؤنس إذا حضرا * جالسني بالملوك والكبرا جسم موات تحيا النفوس به * يجل معنى وإن دنا خطرا ملكت منه كنزا غنيت به * فما أبالي ما قل أو كثرا أظل منه في مجلس حفل * بالناس طرا ولا أرى بشرا وإن أطفل به فيا لك من * مستحسن منظرا ومختبرا أعجب به جامعا ولو جعلت * عليه كف الجليس لاستترا وله يهجو القاضي عبد الله بن محمد بن الخصيب:
قبح الله الخصيبي فما أقبح أمره!
اشترى الدار التي كانت قديما لابن شعره وهي الدار التي يبتر فيها الله عمره لا يتم الحول حتى يجعل المجلس قبره وله أيضا فيه:
اشترى الدار الكبيرة * ودعا فيها الوكيره صغر الباب وفي * تصغيره أشام طيره قبره لا شك فيه * بعد أيام يسبره وله في فصد إسحاق بن كيغلغ:
يا فاصدا شق عرق إسحاق * أي دم لو علمت مهراق؟
سفكته من يد معودة * لنيل مال وضرب أعناق لو يوم حرب أصبت من دمه * إذا أقام الدنيا على ساق وله في صديق بخيل:
صديق لنا من أبرع الناس في البخل * وأفضلهم فيه، وليس بذي فضل دعاني كما يدعو الصديق صديقه * فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي فلما جلسنا للطعام رأيته * يرى أنه من بعض أعضائه أكلي ويغتاظ أحيانا، ويشتم عبده * وأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي!
فأقبلت أستل الغذاء مخافة * وألحاظ عينيه رقيب على فعلي أمد يدي سرا لأسرق لقمة * فيلحظني شزرا فأعبث بالبقل!
إلى أن جنت كفي لحتفي جناية * وذلك أن الجوع أعدمني عقلي فجرت يدي للحين رجل دجاجة * فجرت، كما جرت يدي رجلها، رجلي وقدم من بعد الطعام حلاوة * فلم أستطع فيها أمر ولا أحلي وقمت لو أني كنت بيت نية * ربحت ثواب الصوم مع عدم الأكل وله في جونة الطعام، قصيدة مزدوجة:
وجاءنا فيها بباذنجان * مثل قدود أكر الميدان