وإذا كان هذا الأمر صحيحا بالنسبة لتيار الرابطة الاسلامية في الهند البريطانية الذي تزعمه محمد علي جناح والذي أدى إلى انفصال باكستان فان هذه التجربة الباكستانية وإن حملت عنوان الاسلام شكلا والقومية مضمونا لا يمكن تعميمها على البلاد العربية. فالرابطة العربية هنا والتي يعبر أحيانا عنها بالعروبة وأحيانا أخرى بالقومية العربية دون استدعاء المعاني الغربية لها هي دعوة لرابطة توحيد ورد على سياسة التفسيخ والتجزئة التي استخدمها المستعمرون منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن وكرسوها كامر واقع مفروض أو كمشاريع تذهب نحو مزيد من التجزئ والتفكيك كما نلاحظ الآن على الساحة اللبنانية (1).
وفي إيران وتركيا كان التيار الاسلامي يواجه الفكر القومي الآري انطلاقا من الاختلاف في تعيين مرجعية الأفكار وتعيين أصولها ومصادر استلهامها.
فالفكر القومي الآري ارتبط بمرجعيتين متعارضتين مع العمل الاسلامي. فهو من جهة يتماهى مع الحضارة الآرية التي تستحضر في الصورة التاريخية زمنا تركيا أو إيرانيا ساد في مرحلة ما قبل الاسلام، وهو من جهة أخرى ينجذب نحو تقليد أنموذج حضاري غربي حديث ساد في مرحلة السيطرة الاستعمارية على الشعوب الاسلامية. وكان أهم هذين النموذجين: نظام الشاه في إيران، ونظام آتاتورك في تركيا.
ولذلك كان من الطبيعي أن يتخذ العمل الاسلامي في كل من إيران وتركيا وجهة معادية للفكر القومي باعتباره فكرا أوروبيا وآريا معاديا للاسلام.
يقول مرتضى المطهري، أحد كبار مفكري الثورة الاسلامية في إيران معبرا عن إشكالية الموقف الاسلامي الإيراني في التصور القومي هناك: إذا تقرر أن يكون الأساس في تعيين حدود الأمة الإيرانية هو العنصر الآري، كانت النتيجة في نهاية الشوط الاقتراب من العالم الغربي. وكان لهذا الاقتراب في سيرتنا القومية والسياسية تبعات وآثار أخطرها الانقطاع عن الأمم المسلمة المجاورة غير الآرية والارتباط بأوروبا والغرب... وعلى العكس من ذلك تماما فيما إذا جعلنا ملاك أمتنا نظامنا الفكري والسلوكي والاجتماعي لهذه القرون الأربعة عشر الأخيرة، إذ يكون لنا آنذاك سيرة وتكاليف أخرى مغايرة لما سبق ويصبح حينذاك العرب والترك والهند والأندونيسيون والصينيون المسلمون بالنسبة إلينا أصدقاء بل أقرباء (2).
ويمكن أن نخلص إلى القول أن الوعي القومي المتشكل لدى الأقوام الاسلامية غير العربية بدءا من تركيا إلى الهند مرورا بإيران كان يتخذ صيغا فكرية وسياسية معادية للاسلام أو بعيدة عنه. كان ذلك شان الحالة الفارسية الآرية والحالة الطورانية التركية، أو حتى شان الحالة الانفصالية الباكستانية التي حصرت الاسلام في مفهوم سوسيولوجي إقليمي فبدت انشقاقية وبعيدة عن المفهوم الوحدوي الاسلامي للدعوة.
ومن هنا فان تمايز هذه الحالات ليدعو إلى التمييز أيضا في الحالات العربية.
إن الحالتين الطورانية التركية والفارسية الآرية تتشابهان على المستوى العربي مع الحالات الإقليمية العربية كالحالة المصرية الفرعونية، والحالة اللبنانية الفينيقية والحالة السورية الآشورية مع اختلاف العمق في التمثيل واختلاف أهمية كل من هذه الحضارات في التاريخ.
أما فيما يخص حالة العروبة وإذا استثنينا التعبيرات الجزئية القومية التي سعت إلى الابتعاد عن الاسلام في بعض المناطق ولدى بعض النخب فان العروبة كانت مندمجة دائما في الاسلام بل كانت هي حضور الاسلام المتجدد في اللسان والقرآن والتراث. ومن هنا فان التيارات الاسلامية العربية المعاصرة لا تجد في العروبة المسلمة خصما. ذلك أن العروبيين إذا ما انفصلوا عن الاسلام لن يجدوا في انفصالهم مبررا أو مرجعا إلا عودتهم إلى عروبة جاهلية قبلية أو تماهيهم مع أنموذج قومي عنصري يستلهمون منهجه من نظريات أوروبية درست.
إن المعركة التي تفتعل اليوم بين العروبة والاسلام أو بالأحرى بين التيارات القومية وبين التيارات الاسلامية في بلاد العرب إنما تعود إلى التباسات في الفهم النظري وإلى أخطاء في استراتيجيات العمل السياسي وخططه.
التباسات تعود إلى أن أنظمة دعت نفسها إسلامية، استتبعت إلى الغرب وكانت جزئا من استراتيجيته في مواجهة حركات التحرر الوطني تحت غطاء محاربة الشيوعية، وإلى أن أنظمة دعت نفسها قومية وكانت قطرية في توجهها واستبدادية في علاقتها بجماهيرها وعاجزة عن خوض المعركة القومية التي ادعت القيام بأعبائها.
وأخطاء في استراتيجيات العمل السياسي تعود إلى ردود فعل متسرعة يلجأ إليها كل طرف وقد يخترقها العدو أو يوظفها باتجاه الدفع بالصراع نحو مزيد من التفكيك والتجزئ.
وهكذا وبسبب الالتباس والخطأ والفعل ورد الفعل تقوم تيارات قومية وإسلامية بتبادل التهم وتحميل وزر الخطأ إلى بعضها البعض. فيحمل الاسلام وزر أخطاء قوى اجتماعية سياسية في مرحلة تاريخية ماضية، وتحمل العروبة وزر أخطاء نظام سياسي معين وقوى سياسية عربية معينة.
وهكذا أيضا تتعمق المفارقة الحادة بين الفكر الوحدوي الذي يرفده الاسلام والعروبة معا وبين العمل السياسي الحزبي بشقيه الاسلامي والقومي. فالحزبية سواء كانت قومية أو إسلامية توظف الفكر في مشاريعها التكتيكية السياسية والسلطوية الخاصة. فان اختلفت هذه المشاريع أخضع الفكر للاختلاف والانشقاق والتجزئ. ويبقى مع ذلك للفكر والوحدوي الذي يستلهم التوازن والعدل من المفهوم القرآني للأمة الوسط حيز من الاستقلالية الذي يمتنع عن الإخضاع لمنطق العمل الحزبي والسلطوي.
ولنا من جمال الدين الأفغاني عبرة في القدرة على تجاوز الاختلاف في الانتماءات القومية في العالم الاسلامي. فلم ينحصر تأثير جمال الدين الفكري في نطاق قومي معين. لقد أثر في العرب بقدر ما أثر في الإيرانيين والأتراك والأفغان وغيرهم. وقد قيل إن جمال الدين لم يكن يرغب في أن يعرف نفسه إلى الناس منتميا إلى أمة معينة من المسلمين، مخافة أن يعطي بذلك حجة بيد المستعمرين