وهكذا كان لاهتمام السامانيين بابن سينا ورعايتهم له أثر في تفوقه العلمي وشهرته العلمية وذيوع صيته. ويستمر ابن سينا في الحديث عن نفسه. فبعد أن أتم حفظ القرآن والأدب العربي أرسله أبوه إلى بقال يسمى محمود المساح ليتعلم منه حساب الهند ومبادئ الهندسة، كما تعلم الفقه على يد إسماعيل الزاهد. وصادف أن وفد إلى بخارى الفيلسوف أبو عبد الله الناتلي وكان تلميذا لأبي فرج بن الطيب، من علماء القرن الرابع الهجري، فأنزله والده في داره حتى يتعلم منه ابن سينا الفلسفة، وبدأ يقرأ عليه كتاب إيساغوجي لفرفريوس الصوري وبرز التلميذ على يد أستاذه حتى كان يتصور مسائل المنطق أفضل منه، وعندئذ أخذ ابن سينا يقرأ الكتب ويطالع الشروح بنفسه حتى أحكم علم المنطق والهندسة والطب. ومن فرط ذكائه أنه برز في الطب وهو في السادسة عشرة دون معلم وأخذ يتعهد المرضى، ولا غرابة في ذلك من شفائه للأمير نوح بن منصور الساماني في هذا العمر المبكر، وبذلك نجح نجاحا باهرا واشتهر أمره.
إن هذه السيرة قد قرأها على تلميذه عبد الواحد الجوزجاني عند اتصاله به، وكان ابن سينا في الثانية والثلاثين من عمره، وأكمل الجوزجاني الحديث عن سيرة أستاذه بعد ذلك، ودون أخباره بما يعادل ربع قرن، حيث نضج فيها ابن سينا وتطور واكتسب الكثير من التجارب وألف كثيرا من الكتب الجلية الشأن.
لقد وصفه ابن خلكان بقوله: كان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه وصنف كتاب الشفاء في الحكمة والنجاة والإشارات والقانون وغير ذلك مما يقارب مائة مصنف ما بين مطول ومختصر. ولا غرابة في أن يتخذ كتابه القانون مرجعا لطلبة الطب في جامعات أوروبا حتى القرن السابع عشر.
وأخذ القديس توما الإكويني الفلسفة السينوية لابن سينا فكانت بذلك الفلسفة الغربية التي تمتد جذورها إلى ثمرة جهود ابن سينا، وهذا ما يفسر لنا كيف استمد الغرب ثقافته من العرب.
ويسجل الجوزجاني تاريخ ولادته سنة 370 ه في شهر صفر من تلك السنة، أما وفاته فكانت بمدينة همذان يوم الجمعة من شهر رمضان سنة 428 ه ودفن بها.
ذكر ابن أبي أصيبعة كتاب القولنج هذا، وأشار إلى أن تأليفه قد وقع أيام سجنه في قلعة فردجان من أعمال همذان لم يكن تاما على حد تعبيره.
ويبدو أن ظروف السجن ومعاناة العيش آنذاك حالت دون استكماله.
ولعل ابن سينا قد أكمل الكتاب بعد ذلك أو أيام كونه في السجن. ولكن يد الاهمال حالت دون وصوله إلينا كاملا.
ومهما يكن فان النسخ التي بين أيدينا تعبر بوضوح عن قيمة ابن سينا العلمية وأهميته في الطب في حالتي التشخيص والعلاج، وهو ما بين الداء والدواء يبرز كطبيب عصره وقدرته في العلوم الطبية.
التراث الطبي الاسلامي إن أهمية دراسة التراث العلمي الطبي الاسلامي تنبع من جوانب عدة:
فدراسة التراث الطبي تمكننا من تبيان الحقائق الطبية التي نقلها أجدادنا في عصر الترجمة من الأمم الأخرى مثل اليونان والإغريق والفرس والهنود التي أضافوها إلى جهودهم الشخصية ومكتشفاتهم التي توصلوا إليها عن طريق الملاحظة والمتابعة والتحري وقوة التفسير والتعليل المنطقي الذي يقبله العقل مخالفين بالرأي غيرهم إن لم يكن حقيقة مقبولة. فاختلفوا مع جالينوس في كثير من الأمور الطبية ولم يقبلوا كل شئ على علاته كما يدعي البعض. إن ذلك سوف يعرف أبناء اليوم بجهود أجدادهم كما أن ذلك سوف يرد به على المغرضين والحاقدين الذين يحاولون طمس الحقيقة وحجب نورها وإعطاء المسلمين دور الناقل والمترجم والبعض يعطيهم فضل أمين المكتبة.
إن طبيعة الأمراض لم تختلف عما كانت عليه في الأزمان الماضية عنها في الوقت الحاضر، ولكن الذي اختلف هو ظهور البحث العلمي الذي توصل إلى معرفة مسببات تلك الأمراض. وكثيرا من الوصف الطبي الذي قام به أطباؤنا الأوائل لا يختلف كثيرا عما نعرفه اليوم، وقد برز المسلمون في علم الصيدلة والتداوي وهم أول من ألف الكتب في ذلك. ومن دراسة التراث العلمي لهم نستطيع الكشف عن العلاج الذي اتبعوه، ونحاول دراسته علميا ونخضعه للتجربة العلمية لتبيان مدى فعاليته. وقد قامت جهود مشكورة ولكنها محدودة لدراسة بعض النباتات الدوائية التي استعملها العرب في مداواة بعض الأمراض وأثبتت نتائجها كما فعل الدكتور محمود رجائي وجماعته في دراستهم السريرية على استعمال المسواك حيث أثبتوا احتواء المسواك على المواد الطبيعية النافعة.
إن الأدوية التي استعملها أطباء المسلمين كثيرة ومتعددة وقد يكون الرجوع إليها مخرجا من القيود والتحديدات التي وصل إليها العلم في الزمن الحالي وقد يجد عالم اليوم جوابا علاجيا لبعض الأمراض المستعصية خاصة إذا علمنا أن كثيرا من أدوية هذا العصر سبق أن استعملت ولكنها طورت واستخلصت بصورة جيدة وعلى نطاق تجاري واسع، أو قد صنعت بعد معرفة مكوناتها الأساسية، وكتب الصيدلة تزخر بالمئات منها.
إن تحقيق التراث سوف يرفد المكتبة الاسلامية بالمصطلحات والأسماء الطبية التي عرفها أجدادنا وسموا بها الكثير من أعضاء الجسم والأدوية والأمراض، ويساعد في عملية التعريب، ويثبت أن لغة العرب غير قاصرة عن خدمة العلم، وليست محدودة بحيث لا تسمح لتعريب الطب أن يجري وأن يواكب الحركة العلمية في كافة المجالات.
والتحقيق كذلك يساعدنا على معرفة أماكن مخطوطاتنا التي تنتشر في أنحاء المعمورة كافة، وطمور كثير منها في رفوف المكتبات، وهي تراث علمي نفتخر به، ويجب أن نظهره للعالم أجمع، وقد قامت كثير من الدول العربية والجامعة العربية بانشاء مراكز تعنى بالتراث وتحقيقه وعدم الاكتفاء بالمبادرات الشخصية المشكورة حيث إن العملية مجهدة ومتعبة وهي بحاجة إلى جهود جمة متجمعة وليست متفرقة.
موارد ابن سينا التي تأثر بها في الطب كما وردت في المخطوطة ج 1 جالينوس.