منها ما هو أشد، ومنها ما هو أضعف، والفقر يطلق ويراد به الحاجة إلى المال، ويطلق ويراد به الحاجة إلى الفضائل النفسانية، والاستعداد الذي به يكون ادراك الأمور الكلية الأولية وما فوقه من الدرجات وان كانت الحاجة أعم من ذلك، وقد يراد به عدم المحتاج إليه في الوجهين، واعلم أن تقدير القضية على هذا الوجه: أشد درجات العقل نقصانا هو الفقر فموضوع القضية قولنا: أشد درجات العقل نقصانا، ومحمولها: الفقر، والمراد بالفقر ههنا الحاجة إلى الفضائل والاستعداد المذكور، وحينئذ يلوح لك صدق هذه القضية فان أشد درجات نقصان العقل عدم الاستعداد المذكور المستلزم للخلو عن الفضائل النفسانية، وقد يحمل الفقر ههنا على المعنى وهو الحاجة إلى المال أو عدمه الا ان ذلك المعنى لا يحمل على أشد درجات نقصان العقل بأنه هو، فان الحاجة ليس نفس نقصان العقل بل يحتاج إلى اضمار شئ آخر في ايضاح هذه القضية حتى يصير التقدير: أشد درجات نقصان العقل لازم عن الفقر الا انه لما كان حمل الملزوم يستلزم حمل اللازم اكتفى في الكلام مراعاة للوجازة بحمل الملزوم. واما علة هذا الحكم فلان العقلاء اتفقوا على أن المال مهذب لصاحبه وموجب لزيادة العقل ومنشط 1) لاكتساب الملكات الفاضلة عند استعماله في الوجوه التي ينبغي ولذلك قالت الحكماء: ان المال إنما جعل زيادة في القوة (2) والرأي وضربوا لذلك الأمثال كالمثل المشهور في كتاب كليلة ودمنة في الباب الثالث منه على لسان الجرذ الذي زعموا انه كان في بيت الناسك (3) وإذا كان كذلك علمت أن الحاجة إلى المال المسمى فقرا عند تحققه في محل يستلزم خلو ذلك المحل عن تلك الكمالات النفسانية مع ما يلزم الفقر من حيث هو فقر من عدم مقاومة النفس للهوى وانقيادها لقبائح اللذات ومن ارتكاب الرذائل الردية كالحسد والمهانة وانقهار (4) النفس وانفعالها فيما يطلب منها مما يوجب السقوط في مواقع (5) التهم والدخول فيما لا ينبغي المستلزم كل ذلك نقصان العقل ورداءته، وحينئذ يتضح المعنى على هذا التقدير الا ان في هذا
(٧٨)