والتحقيق في هذا المقام: أنه وجه عدم سماع الانكار بعد الاقرار هو أنه يرجع إلى الاقرار والاعتراف بماله لا بما عليه، والعقلاء بناؤهم على سماع الاقرار إذا صدر عن عاقل، ونفوذه إذا كان الاقرار عليه لا له، والشارع أمضى ما هو بناء العقلاء عليه، ففي الحقيقة يرجع الانكار لما أقر به مما يكون عليه إلى دعوى عدم ثبوت ما أقر به مع وجود الامارة على ثبوته، أعني إقراره، فيصير هذا الانكار بعد إقراره مثل أن يدعى شيئا تكون البينة على خلافه، ومعلوم مثل هذه الدعوى لا يسمع.
هذا فيما إذا كان متعلق إنكاره نفي ما أقر به، وأما لو كان مرجع إنكاره إلى دعوى بطلان مدرك إقراره، كما إذا ادعى أن مدرك إقراري كان إخبار فلان، مع اعتقادي أنه صادق القول، ثم تبين لي أنه كذاب أو كان إخباره بذلك الغرض كذا، فهذه دعوى جديدة يسمع منه، بمعنى أنه يطالب بالبينة بخلاف الصورة الأولى أي: فيما إذا كان متعلق الانكار نفس ما أقر به، لأنه لا أثر للبينة مع إقراره وثبوته به.
وأما الثاني أي إثبات الرضاع بالبينة - فبعد الفراغ عن حجية البينة وإثباتها لجميع الموضوعات عند الشك فيها، سواء أكان في مقام المخاصمة وعند الحاكم أم لا وإن لم يكن مخاصمة في البين، بل حجيتها مطلقة وعند أي شخص كان.
ومع ذلك كله ذكر جماعة من الأصحاب عدم قبول الشهادة على ثبوت الرضاع إلا مفصلة، بأن يشهد بوقوع الرضاع الذي هو عبارة عن كذا وكذا، بأن يذكر حقيقته وماهيته وجميع القيود المعتبرة فيه، حتى ولو شهد الشاهدان بوقوع الرضاع المحرم لا يثبت بها، فضلا عن أن يكون شهادتهما بالرضاع المطلق من دون قيد المحرم.
وعللوا ذلك بأن الرضاع المحرم يختلف عند الفقهاء من حيث اعتبار الشروط قلة وكثره، فربما يكون ارتضاع خاص رضاعا محرما عند فقيه، من جهة عدم اعتبار ذلك الشرط المفقود عنده، وهذا الارتضاع بعينه لا يكون محرما عند فقيه آخر لأجل اعتبار ذلك الشرط المفقود عنده، فمن الممكن أن يكون المشهود به رضاعا عند