ج - - والماركسية حين تحاول أن تقصر نطاق العلم، على القضايا والمشاكل التي تضعها وسائل الإنتاج، وأوضاعها التكنيكية أمامها، تقع في خلط بين العلوم الطبيعية النظرية من ناحية، والفنون العلمية من ناحية أخرى. فالفنون العلمية الصناعية، التي نبعت من خلال التجارب والخبرات الاعتيادية، التي حصل عليها رجال الأعمال، وتوارثوها، كانت تسخر دائما لحساب القوى المنتجة، وتنمو تبعا لما تقدمه هذه القوى من مسائل ومشاكل، تتطلب منهم الجواب عنها، أو التغلب عليها. وأما العلوم النظرية التجريبية، فلم تكن وقفا على تلك المسائل والمشاكل، بل إننا نجد أن التطور العلمي النظري، والتطور الفني العملي، سار لفترة كبيرة من الزمن، في خطين منفصلين، وذلك منذ القرن السادس عشر، إلى القرن الثامن عشر. فقد مضى على الفنون العملية - بعد ميلاد العلم في القرن السادس عشر - قرنان، قبل أن تتهيأ لها الاستفادة من العلم، وبقي الحال على هذا تقريبا، حتى بدأت صناعة الكهرباء سنة (1870).
ومن المفيد بهذا الصدد أن نعلم، أن الثورة العلمية في الكيمياء، التي قام به (لافوازيه)، لم يقبلها الناس عامة، إلا في نهاية القرن الثامن عشر. وقد استطاعت الفنون العلمية خلال ذلك، إجراء تحسينات في صناعة الحديد، وصناعة الفولاذ، قبل أن يعرف هؤلاء الفنانون الفروق الكيمياوية الأصلية، بين الحديد الصلب، والحديد المطاوع، والفولاذ، تبعا لاختلاف نسبة الكربون فيها.
وهذا الانفصال بين خط التفكير العلمي، والخبرة البحتة في الفنون العلمية، ردحا من الزمن، يعني أن للعلم تاريخه الفكري، وليس نتاجا لحاجات الإنتاج المتجددة، واستجابة لمستلزماتها الفنية فحسب.
وأما ما لاحظه (غارودي)، من أن كشفا علميا واحدا، قد يصل إليه عدة علماء في وقت واحد... فهو لا يبرهن على أن الكشوف العلمية دائما وليدة الظروف التكنيكية. لوسائل الإنتاج، كما شاءت الماركسية أن تستنتجه من هذه الظاهرة، زاعمة: أن الظروف الاقتصادي والمادية، حين تسمح لقوى الإنتاج، بطرح قضية جديدة إلى العلماء، وتدفعهم إلى التفكير في حلها، يصل هؤلاء العلماء إلى الكشف