إلى النظارات مثلا قديمة، قدم الانسان، ولكن هذه الحاجة المادية، بقيت تنتظر دورها، حتى جاء القرن الثالث عشر، فاستطاعت أوروبا أن تأخذ عن المسلمين معلوماتهم عن انعكاس الضوء وانكساره، وبالتالي تمكن العلماء على أساس هذه المعلومات، أن يصنعوا النظارات فهل كان هذا الحدث العلمي وليد حاجة جديدة، نبعت عن الواقع الاقتصادي والمادي للمجتمع؟! أو كان نتيجة لعوامل فكرية، استطاعت أن تؤدي إلى اختراع النظارات عند وصولها إلى درجة معينة من تطورها وتكاملها؟!
ولو كان بإمكان الحاجة المنبثقة من الظروف الاقتصادية، أن تفسر العلم والكشوف العلمية، فكيف يمكن أن نفهم اكتشاف أوروبا لقدرة المغناطيس على تعين الاتجاه، في القرن الثالث عشر، حين استعملت الإبرة المغناطيسية في إرشاد السفن؟!. مع أن الطريق البحري كان هو الطريق الرئيسي للتجارة في قرون خلت، وكان الرومان يعتمدون في التجارة على طريق البحر بصورة رئيسية، ولم يتح لهم - بالرغم من ذلك - أن يكتشفوا للمغناطيس قدرته على توجيه السفن. ولم تشفع لهم حاجاتهم النابعة من واقعهم الاقتصادي بذلك، بينما تؤكد بعض الروايات التاريخية، أن الصين قد ظفرت بهذا الكشف قبل عشرين قرنا تقريبا.
وقد يتفق للعلم أن يسبق بفتوحه الحاجة الاجتماعية إذا استكمل الشروط الفكرية للفتح الجديد. فالقوة المحركة للبخار هي من حاجات المجتمع الرأسمالي في رأي الماركسية، ولكن العلم قد اكتشفها - بالرغم من ذلك - في القرن الثالث الميلادي (1) قبل أن تظهر طلائع الرأسمالية الصناعية، على مسرح التاريخ، بأكثر من عشرة قرون. صحيح أن المجتمعات القديمة المستثمر هذه القوة البخارية، ولكننا لا نتحدث عن مدى قدرة المجتمع على الاستفادة من العلوم، وإنما نبحت الحركة العلمية نفسها، وندرس ما إذا كانت تعبيرا عقليا عن الحاجة الاجتماعية المتجددة بدورها، أو حركة أصيلة لها شروطها السيكولوجية وتاريخا الخاص.