ولكنا نعلم جميعا، أن (بيكون) لم يكن فيلسوفا ماديا، بل كان غارقا في المثالية، وإنما دعا إلى التجربة فقط وشجع الطريقة التجريبية في البحث. وأما (الاسميون) الإنجليز، فلئن كانت (الاسمية) لونا فكريا من الإعداد للمادية، فقد سبق إلى هذا اللون من التفكير الفلسفي، اثنان من الفلاسفة الفرنسيين، في مطلع القرن الرابع عشر: أحدهما (دوران دي سان بورسان)، والآخر: (بيير أوريول) وإذا أردنا أن نفتش بصورة أعمق عن المقدمات الفكرية، التي مهدت للاتجاه المادي. فسوف نجد قبل (الاسمية) الحركة (الراشدية اللاتينية) في الفلسفة، التي ظهرت في القرن الثالث عشر في فرنسا، وتشيع لها معظم أساتذة كلية الفنون بباريس. وعلى يدهم فصلت الفلسفة عن الدين، وبدأت تتجه إلى إنكار المسلمات الدينية.
وأما الاتجاه المادي في شكله الصريح، فهو وإن كشف عن نفسه في شخص أو أشخاص معدودين في إنكلترة، نظير (هوبز). ولكن هذا الاتجاه لم يستطع أن يسيطر على الموقف الفلسفي في إنكلترة، أو يستلم الزمام من الفلسفة المثالية، بينما آثار أكبر عاصفة مادية على المسرح الفلسفي في فرنسا، حتى غرقت فرنسا في الاتجاهات المادية. وبينما كانت فرنسا الفكرية، تحتفل ب - (فولتير) و (ديدرو) وأمثالهما من أئمة المادية في القرن الثامن عشر.. نجد انكلترة زاخرة بأعمق وأفظع مثالية فلسفية. على يد ((جورج باركلي)) و ((ديفيد هيوم)) المبشرين الأساسيين بالمثالية في تاريخ الفلسفة الحديثة..
وهكذا تجيء النتائج، على عكس ما ترتقبه الماركسية في التاريخ. إذ تزدهر الفلسفة المثالية، وبتعبير آخر: أشد الفلسفات رجعية عند الماركسية، في أرقى المجتمعات، وأكثرها تطورا من الناحية الاقتصادية والتكنيكية. بينما تختار العاصفة المادية لها مكانا، في مجتمعات متأخرة اقتصاديا واجتماعيا، كفرنسا، بل إن المادية التطورية والديالكتيك نفسهما، لم يظهرا إلا في ألمانيا، يوم كانت متأخرة في شروطها المادية على انكلترا، بعدة درجات. ومع هذا تريدنا الماركسية، أن نصدق تفسيرها للتفكير الفلسفي وتطوراته، على أساس الوضع الاقتصادي ونموه.