ولنأخذ حالة أوروبا، عندما لاحت في الأفق الأوروبي، تباشير الثورة الفكرية الجديدة. فقد كانت انكلترة تتمتع بدرجة عالية نسبيا من التطور الاقتصادي، لم تظفر بنظيرها فرنسا ولا ألمانيا، وكان الشعب الإنكليزي، قد ظفر بمكاسب سياسية خطيرة، لم يكن قد حصل على شيء منها الشعب الفرنسي والألماني، وكانت القوى الاقتصادية الفنية في انكلترة (قوى البورجوازية) في نمو مستمر، لا يشبهه وضعها في البلدان الأخرى. وبكلمة مختصرة: إن الوضع الاجتماعي لإنكلترة، بشروطه الاقتصادية والسياسية، كان أعلى درجة - في سلم التطور التاريخي، الذي تؤمن به الماركسية - من فرنسا وألمانيا، بدليل أن انكلترة بدأت ثورتها التحررية، سنة (1215)، وخاضت في منتصف القرن السابع عشر (1648)، ثورتها الكبرى بقيادة (كرومويل)، بينما لم تتهيأ في فرنسا ظروف الثورة الحاسمة، إلا سنة (1789)، ولا في ألمانيا، إلا عام (1848)، وهذه الثورات، بوصفها ثورة بورجوازية، منبثقة عن درجة التطور الاقتصادي في رأي الماركسية، تبرهن بما تشير إليه من تفاوت زمني بينها إلى سبق انكلترة في المجال الاقتصادي.
وإذا كانت انكلترة هي الدولة المتطورة اقتصاديا، أكثر من غيرها، فمن الطبيعي - على أساس النظرية الماركسية - أن تسبق غيرها من البلدان في المضمار الفلسفي، وتصبح أكثر تقدمية منها في اتجاهها الفلسفي. والاتجاه التقدمي، في الفلسفة - عند الماركسية - هو الاتجاه المادي، وأكثر ما يكون الاتجاه المادي تقدميا، حين يقوم على أساس التطور والحركة. وهنا نتساءل: أين ولدت المادية وشبت؟ وفي أي مجتمع ظهرت تباشيرها، ثم اندلعت عاصفتها؟ وتبدو لنا الماركسية هنا في موقف حرج، لأن نظريتها في تفسير انكلترة الاقتصادي، كان يفرض عليها أن تظهر على المسرح الفلسفي، بالاتجاه التقدمي، أو الاتجاه المادي بتعبير آخر. ولهذا حاول ماركس القول: بأن المادية ولدت في إنكلترة، على يد (فرنسيس بيكون)، وعلى يد (الاسميين) (1).
(1) (التفسير الاشتراكي للتأريخ) ص 76.