وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص والضعف أمام المعطي ويظل هذا الشعور يحز في نفسه، فيحاول الاستعلاء عليه بالتهجم لصاحب الفضل عليه وإضمار العداوة له، لأنه يشعره دائما بنقصه وضعفه.. وبأن المعطي يريد أن يشعر دائما بأنه صاحب فضل على ما أعطاه. وهو الشعور الذي يزيد من ألم صاحبه الآخر حتى يتحول إلى عداء..
وقد يكون هذا كله صحيحا في المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر، عالجها بأن يقرر في النفوس أن المال مال الله، وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله. فإذا أعطى الواجد من ماله شيئا فإنما من مال الله أعطى، وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافا كثيرة. وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسببا لينال المعطي الواهب أضعاف ما قدمت يداه! ثم شرع هذه الآداب التي نحن بصددها الآن، توكيدا لهذا المعنى في النفوس، حتى لا يستعلي معط، ولا يتخاذل آخذ. فكلاهما آكل من رزق الله. وللمعطين أجرهم من الله إذا هم أعطوا في سبيل الله، وابتغاء لرضاه، متأدبين بالأدب الذي رسمه أولئك (لا خوف عليهم) من فقر، ولا من حقد، (ولا هم يحزنون) على ما أنفقوا في الدنيا، ولا على مصيرهم في الآخرة... وتوكيدا للمعنى الذي سلف من حكمة الصدقة. وتوكيدا لأن الغرض منها هو تهذيب النفوس وترضية القلوب وربط الواهب والآخذ برباط الحب في الله... يقول تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم).
يقرر أن الصدقة التي يتبعها الأذى لا ضرورة لها: وأولى منها كلمة طيبة، وشعور سمح. كلمة طيبة تضمد جراح القلوب وتفعمها بالرضى والبشاشة ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة.