حيث قال تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون).
ولما جاء الرسول الأعظم محمد (ص) بشريعة الإسلام التي تدعو إلى العمل وتعتبر كل أعمال الإنسان المشروعة في الحياة عبادة، إذا قصد بها الطاعة ورضاء الله، وحرم الله على الناس البطالة والكسل والتسول والاستجداء إن كانوا قادرين على العمل. أراد سبحانه وتعالى أن لا يحرمهم من عمل يحصلون به على الثواب، ثواب الرهبانية خلال فترات قصيرة، فدعاهم إلى الحج، إلى بيته الحرام، وصاغه في قالب يقضي به الإنسان على شهوات النفس، ويوجهها إلى طاعة الله ابتغاء مرضاة الله، إذ فيه أتعاب للجسم، وتقشف في المظهر، وكف عن الزينة، وصبر عن الشهوة الجنسية.
وفيه بذل للمال الذي هو أغلا شئ عند الإنسان في الحياة بغير مقابل إلا رضاء الله، وفيه منتهى الطاعة والانقياد بإقامة شعائر لا يدرك غالبا كنهها ولا يعلم أسرارها، بل ربما كان في إتيانها ما يدعو إلى الاستغراب لو لم يكن بأمر رب العالمين.
فالحج بهذا الاعتبار رهبانية حقة لله، لأنه يقضي على روح التمرد في ابن آدم عن تقي وطاعة، وإذعان لله بالعظمة والسيادة، إذ يقف المسلم إلى جانب من هو أرفع منه مقاما وأكثر مالا، بزي واحد من غير تفريق في صعيد واحد (هو جبل عرفات) في موقف تتجلى فيه العبودية لله بأقصى معانيها يلهجون إليه بالتلبية والدعوات بمختلف اللغات، ويسألونه الرحمة والغفران وقضاء الحاجات، وينفذون من المناسك ما لا يفقهون لفعلها معنى سوى الطاعات