كثرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل له من قلة الكمية. ويجب أن يكون الغذاء شديد الإمداد للأعضاء الرئيسية، لأنها هي المهمة من أعضاء البدن وما دامت باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء والسبب الطبيعي في كون الجوع مؤثرا في صفاء النفس: أن البلغم الغالب على مزاج البدن يوجب بطبعه البلادة وإبطاء الفهم لكثرة الأرضية فيه وثقل جوهره وكثرة ما يتولد عنه من البخارات التي تسد المجاري وتمنع نفوذ الأرواح، ولا ريب أن الجوع يقتضي تقليل البلغم لأن القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه عملت في الرطوبة الغريبة الكامنة في الجسد، فكلما انقطع الغذاء استمر عملها في البلغم الموجود في البدن فلا تزال تعمل فيه وتذيبه الحرارة الكائنة في البدن حتى يفنى كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة ولا تبقى إلا الرطوبات الأصلية، فإن استمر انقطاع الغذاء أخذت الحرارة والقوة الهاضمة في تنقيص الرطوبات الأصلية من جوهر البدن، فإن كان ذلك يسيرا وإلى حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الأضرار، وكان ذلك هو غاية الرياضة وإن أفرط وقع الحيف والإجحاف على الرطوبة الأصلية وعطب البدن ووقع صاحبه في الدق والذبول، وذلك منهي عنه لأنه قتل النفس فهو كمن يقتل نفسه بالسيف أو بالسكين.
وقد سبق لنا أن ذكرنا في بعض أبحاثنا: أن الجوع المفرط فضلا عن أنه يميت الشهوة، فهو يميت كل حيوية وكل قوة وكل نشاط للانسان، ولذلك يمكن أن نقول: (أشبع الجائع ثم أفهمه ما تريد أن تقول له:) وقال بعضهم: (إذا كلمت الجائع سمعك بمعدته، وإذا خاطبته فسيجيبك بمعدته أيضا). إذ لا يصدر أي فعل عنه إلا بموجب ما يؤدي إلى شبع المعدة الخاوية: