أنا وأولتها من (الاتقاء)، فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة، ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرت من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي (1).
وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة. واتقاء رذيلة لجلب فضيلة وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية، لا يأتي البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل من لفظها، ويتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتقي بها الاجتماع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه (قانون البطن)). (2).
* * * الأمة التي تريد السيادة الخالدة، والحرية المستمرة والعزة الدائمة والكرامة الباقية، لا بد لها من الإيمان الراسخ الذي يقوي روحها ويهذب أخلاقها، ويبعث فيها العزم الواثب والوعي الصاعد وحب التضحية وصلابة الصبر وما من أمة تهاونت في إيمانها وعقيدتها وقيمتها الروحية وفرائضها وشعائرها الدينية، إلا أسرع إليها الضعف والانحلال والاضطراب الاجتماعي والقلق