فلما أوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن أنهم خوارج فضربوه بأسيافهم وهو على فراشه، ولا يظن أن الذي كان يكون، فخرج يشتد عريانا فلحقوه في الطريق فقتلوه، فأراد زياد أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الأزد وغيرهم من شيعة علي ع فأرسلت بنو تميم إلى الأزد: والله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه ولا لمال هو له ولا لأحد ليس على رأينا، فما تريدون إلى حربنا وإلى جارنا؟ فكان الأزد عند ذلك كرهت قتالهم، فكتب زياد إلى علي ع.
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أمير المؤمنين فان أعين بن ضبيعة قدم علينا من قبلك بجد ومناصحة وصدق ويقين فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثهم على الطاعة والجماعة، وحذرهم الفرقة والخلاف، ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه فواقفهم عامة النهار، فهال أهل الضلال مقدمه وتصدع عن ابن الحضرمي كثير ممن كان معه يريد نصرته فكان كذلك حتى أمسى فاتى رحله فبيته نفر من هذه الخراجة المارقة فأصيب رحمه الله فأردت أن أناهض ابن الحضرمي عند ذلك فحدث أمر قد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكره لأمير المؤمنين، وقد رأيت إن رأي أمير المؤمنين ما رأيت أن يبعث إليهم جارية بن قدامة فإنه نافذ البصيرة، مطاع في العشيرة، شديد على عدو أمير المؤمنين، فان يقدم يفرق بينهم بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فلما جاء الكتاب وقرأه علي ع دعا جارية بن قدامة فقال: يا ابن قدامة تمنع الأزد عاملي وبيت مالي وتشاقني مضر وتنابذني (1)، وبنا ابتدأها الله بالكرامة، وعرفها الهدى، وتدعو إلى المعشر الذين حادوا (2) الله ورسوله، وأرادوا إطفاء نور الله حتى علت كلمة الله وهلك الكافرون.
قال: يا أمير المؤمنين ابعثني إليهم واستعن بالله عليهم، قال: قد بعثتك إليهم واستعنت بالله عليهم. قال كعب بن قعين: فخرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة في خمسين رجلا من بني تميم ما كان فيهم يماني غيري، وكنت شديد التشيع قال: فقلت لجارية: إن شئت سرت معك، وإن شئت ملت إلى قومي؟ فقال: بل سر معي وانزل منزلي، فوالله لوددت أن الطير والبهائم تنصرني عليهم فضلا من الإنس.
وعن كعب بن قعين أن عليا ع كتب مع جارية بن قدامة كتابا فقال: اقرأه على أصحابك قال: فمضينا معه فلما دخلنا البصرة بدأ بزياد فرحب به وأجلسه إلى جانبه، وناجاه ساعة وساء له، ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أن قال: احذر على نفسك واتق أن تلقى ما لقي صاحبك القادم قبلك، وخرج جارية من عنده فقام في الأزد، فقال: جزاكم الله من حي خيرا ما أعظم عناءكم وأحسن بلاءكم، وأطوعكم لأميركم، وقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره، ودعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه، ثم قرأ عليهم وعلى من كان معه من شيعة علي ع وغيرهم كتاب علي فإذا فيه:
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، أما بعد، فان الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البينة، ولا يأخذ المذنب عند أول وهلة، ولكنه يقبل التوبة ويستديم الأناة ويرضى بالإنابة ليكون أعظم للحجة وأبلغ في المعذرة، وقد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم، وأخذت بيعتكم، فان تفوا ببيعتي وتقبلوا نصيحتي، وتستقيموا على طاعتي أعمل فيكم بالكتاب والسنة وقصد الحق وأقم فيكم سبيل الهدى، فوالله ما أعلم أن واليا بعد محمد ص أعلم بذلك مني ولا أعمل، أقول قولي هذا صادقا غير ذام لمن مضى ولا منتقصا لأعمالهم، فان خطت بكم الأهواء المردية وسفه الرأي الجائر (5) إلى منابذتي تريدون خلافي، فها أنا ذا قربت جيادي، ورحلت ركابي (6)، وأيم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل عندها إلا كلعقة لاعق، وإني لظان أن لا تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلا، وقد قدمت هذا الكتاب حجة عليكم، ولن أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغشتم نصيحتي ونابذتم رسولي حتى أكون أنا الشاخص (7) نحوكم إن شاء الله، والسلام.
فلما قرئ الكتاب على الناس قام صبرة بن شيمان فقال: سمعنا وأطعنا، ونحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب، ولمن سالم أمير المؤمنين سلم، إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك، وأن أحببت أن ننصرك نصرناك، وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك، فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه ومضى نحو بني تميم.
فقام زياد في الأزد فقال: يا معشر الأزد إن هؤلاء كانوا أمس سلما فأصبحوا حربا، وإنكم كنتم حربا فأصبحتم اليوم سلما، وإني والله ما اخترتكم إلا على التجربة، ولا أقمت فيكم إلا على التأمل، فما رضيتم أن أجرتموني حتى نصبتم لي منبرا وسريرا، وجعلتم لي شرطا وأعوانا، ومناديا وجمعة، فما فقدت بحضرتكم شيئا إلا هذا الدرهم لا أجبيه، فان لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله، واعلموا أن حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدين والدنيا من حربكم أمس عليا، وقد قدم عليكم جارية بن قدامة وإنما أرسله علي ع ليصدع أمر (8) قومه، والله ما هو بالأمير المطاع ولا المغلوب المستغيث، ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين أو لكان لي تبعا وأنتم الهامة العظمى والجمرة الحامية فقدموه إلى قومه فان اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك.
فقام أبو صبرة بن شيمان فقال: يا زياد إني والله لو شهدت قومي يوم الجمل رجوت أن لا يقاتلوا عليا وقد مضى الأمر بما فيه، وهو يوم بيوم، وأمر بأمر، والله إلى الجزاء بالاحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسئ، والتوبة مع