تكون ذاته معدومة. لا يقبل الشئ أن يوصف بأنه علة ومعلول إلا إذا وصف بالوجود، وأنه من المستحيل أن يكون علة كون ذاته إذا كان معدوما. إذا كانت ذات الشئ هي غيره، والمتغايرات يمكن أن يعرض لأحدها ما لا يعرض للآخر، وقد عرض له أن يكون موجودا وعرض لذاته أن تكون معدومة، فستكون ذاته إذن هي لا هو، وكل شئ فذاته هي هو فهو لا هو، وهو هو، وهذا خلف لا يمكن. إذا كان الشئ موجودا وذاته موجودة، أي حسب تعبير الكندي: إن كان أيسا وذاته أيس، فهو علة ومعلول. يعني أن يكون علة ذاته، وعرض لذاته أن تكون معلولته، فذاته هي لا هو، وكل شئ فذاته هي هو، فهو لا هو، وهو هو، وهذا خلف لا يمكن... يخلص الكندي من هذه البرهنة الأصيلة إلى أنه من المستحيل أن يكون الشئ علة ذاته بل هو معلول دائما. أن الله وهو الفاعل الحقيقي، والعلة القريبة والبعيدة لهذا الشئ، يعطي للمعلولات جميعها وجودها وكمالها وبقاءها.
يعرف الكندي الحركة، في بحثه عن الله والعالم، بأنها تبدل أما بمكان، وأما بكم، وأما بكيف وأما بجوهر، وكل تبدل فإلى غير يرى الكندي أن كل حركة إما أن تكون ذاتية وإما أن تكون عرضية، ويعني بالذاتية هي ما تكون من ذات الشئ، ولا تفارق الشئ الذي هي فيه إلا بفساد جوهره، ويضرب لهذا مثلا بحياة الحي التي لا تفارق الحي إلا بفساد جوهره وانتقاله إلى لا حي، على حين أن الحركة العرضية هي عنده تلك التي ليست من ذات الشئ، ويعني بما ليس من ذات الشئ ما يفارق الشئ ولا يفسد جوهره، كالحياة في الجرم، فان الجرم الحي قد تفارقه الحياة وأن الجرمية ثابتة فيه على حالها لم تفسد.
ويكاد الكندي ينقل، ولكن في شئ من الأصالة، ما قاله أرسطاطاليس في تصور الزمان في داخل النفس. يقول الكندي: أن الحركة موجودة في النفس، أعني أن الفكر ينتقل من بعض صور الأشياء إلى بعض، ومن أخلاق لازمة للنفس شتى مثل الفرح والحزن وما كان كذلك، فالفكر متكثرة ومتوحدة، إذ لكل كثرة كل وجزء، إذ هي معدودة، وهذه اعراض النفس، فهي متكثرة أيضا ومتوحدة، بهذا النوع. ومن هنا يتضح لنا كيف يصور الكندي ارتباط الزمان، وهو في داخل النفس، بالحركة والجرم، ولكن هل يمكن تصور جرم من غير مكان؟ هذا ما ستجيب عليه فلسفة أرسطاطاليس وبراهين الكندي...
وإذا كان الجرم لا يمكن أن يتصور إلا في المكان، فان الكندي لم يناقش، في نظريته عن الله والعالم، علاقة الحركة والجرم والزمان والمكان، وكل ما فعله في هذا السبيل هو إشارة عابرة إلى آراء الفلاسفة الذين لم يتعرض لأسمائهم، إلى أفلاطون، ثم إلى أرسطاطاليس الذي يقول أن المكان موجود وبين. لا يقبل الكندي أن يكون المكان جسما، ولعله يفترض يختل خلاء، لأن الخلاء الخالي، كما يقول أرسطو وابن سينا والكندي، لا وجود له.
يرفض الكندي أن يكون المكان جسما، لأن الجسم يقبل إذن الجسم، والجسم يقبل ويقبل، وهكذا ابدا بلا نهاية، وفكرة اللاتناهي هذه، وكما نعرف مرفوضة عنده في نظرية حدوث العالم. يرى الكندي إذن أن المكان ليس جسما، بل هو السطح الذي هو خارج الجسم الذي يحويه المكان ينظر الخوارزمي إلى مكان الشئ بأنه سطح تعقير الهواء الذي فيه الجسم، أو سطح تعقير الجسم الذي يحويه هواء يعرف الكندي المكان بأنه نهايات الجسم، وبأنه بتكثر بقدر أبعاد المتمكن ونهاياته... لا يقبل الكندي أن يكون للخلاء المطلق وجود، وليبرهن على هذا الرفض يقول أن معنى الخلاء هو مكان لا متمكن فيه. لا يصح وبأنه حال من الأحوال، تصور مكان من غير أن تتبعه إضافة متمكن، إذا كان متمكن كان مكان اضطرارا، إذا كان مكان وفيه متمكن، فان وجود الخلاء المطلق إذن عند الكندي، كما هو عند أرسطاطاليس، مستحيل. وإذا لم يكن ثمة خلاء مطلق فلا بد إذن من الملأ، وحيث أن هذا يكون جسما، فلا بد من أن يكون متناهيا، لأنه ليس يمكن، حسب المذهب العام لنظرية الحدوث عند الكندي، أن يكون شئ لا نهاية له بالفعل.
والكندي الذي يعرف الهيولى أي المادة، في نظريته عن الله والعالم، بأنها موضوعة لحمل الصور، وبأنها منفعلة، يرى أن الهيولى هي ما يقبل ولا يقبل، أنها ما يمسك ولا يمسك.
يعني بهذا انها تحفظ الصورة. والمادة التي يتكون منها كل شئ، والتي نقبل الأضداد دون فساد، تعطينا تمثلات كلية في النفس، بحيث تكون هذه التمثلات القائمة في المصورة أشبه بالمحسوسة. وهو لا ينسى أن يفرق، في نظرته إلى المادة، بين نوعين من المعرفة، أي الوجود. ينقسم الوجود عنده إلى حس يتصل بطبيعة الأشياء الجزئية الهيولانية، وعقلي ينتسب إلى الكليات والأجناس والعقل الإنساني. والكندي الذي يعرف الصور في رسالته عن الحدود بأنها الشئ الذي به الشئ هو ما هو، يراها تنقسم إلى قسمين:
أحدهما يقع تحت الحس والثاني تحت الجنس. وإذا كانت الصورة الحسية تميز، وعن طريق البصر، الشئ من حيث الجوهر والكيف والكم وبقية الأجناس العشرة، فان الكندي يرى أن الصورة في النفس هي والنفس شئ واحد، لا يتغايران تغايرا مصدره غيرية المحمولات، يعني بهذا ما تحمله النفس في ذاتها وليس المحمولات المنطقية.
يتضح لنا من فهم المادة والصورة من ادراك المحمولات والأجناس العشرة في نظرية الله والعالم عند الكندي، ان القول أولا بوجود الواحد الحق المبدع، والقول ثانيا بالحدوث، يحل مشكلة رئيسة تبدو في صميم العلاقة الكائنة بين الفلسفة والدين. يظهر لنا بجلاء من هذه الصلة أن تدبير العالم المرئي لا يمكن أن يكون الا بعالم لا يرى، وأن آثار العالم، وما فيه من التناسق والنظام، تدل على موجده ومدبره، هذا المدبر الأبدي الذي وهب العالم الحركة والزمان والابداع، الذي خلق المحدثات المنفعلات من لا شئ، والذي أعطى الوجود أصالته وتمامه وكماله...
رسالة للكندي وننشر فيما يلي كلمة عن رسالة له مخطوطة في موضوع قلع الآثار من الثياب وهي مكتوبة بقلم الدكتور محمد عيسى صالحية:
الكندي أحد أعلام الفكر العربي الاسلامي الكبار، عمل الباحثون ولسنوات طويلة في دراسة ونشر أعماله العلمية، حتى ليبدو لي أن معاودة الكتابة عن حياته ما هو إلا ضرب من التكرار الممل، وما دام الأمر كذلك، فاني