فهل من المعقول أن تكون تلك الجمجمة قد تحطمت، وأن يكون أولئك الفرسان قد تبددوا في مشارق الأرض ومغاربها؟
وأن يكون ذلك قد جرى في غمضة عين وانتباهتها بالنسبة لحياة الشعوب؟
ثم أليس عجيبا من الدكتور منيمنة الحصيف أن يقول: أن الكتلة التي ساندت المأمون قد اختارت خراسان مقرا ومنطلقا لايصال المأمون إلى الخلافة؟
وأين رأى أن هذه الكتلة هي التي اختارت خراسان؟ وهل كان في يد المأمون وكتلته أن يختاروا مقرهم ومنطلقهم؟
أليس الرشيد هو الذي اختار المقر، والأمين هو الذي اختار المنطلق؟
هل المأمون وكتلته هم الذين قسموا المملكة إلى قسمين: غربي يحكمه الأمين ومقره في بغداد. وشرقي يحكمه المأمون ومقره في مرو عاصمة خراسان، أو الرشيد هو الذي فعل ذلك؟
وهل المأمون وكتلته كانوا مختارين في إيصال المأمون إلى الخلافة فانطلقوا من مرو، أو الأمين هو الذي خلع أخاه المأمون من ولاية العهد وجعله ينطلق مع كتلته من خراسان للوصول إلى الخلافة؟
نحن لا ننكر أنه كان بين من ناصروا المأمون فرس، ويكفي في ذلك أخواله، كما أننا لا ننكر أنه كان بين من ناصروا الثورة العباسية فرس، ولكن العرب كانوا يشكلون القوة الضاربة في كلا الموقفين.
وكما كان بين أنصار العباسيين أيام الثورة فرس كذلك كان بين أنصار خصومهم فرس، فقد انضم الفرس إلى الجانبين العباسي والأموي، فرأينا مثلا أهل نيسابور وبلخ الفرس ينحازون إلى نصر بن سيار.
وهذا طبيعي ما دام في الناس اختلاف المشارب والأهواء والأغراض.
وكذلك الحال في الخلاف بين الأمين والمأمون، وإذا كنا لم نر اسما فارسيا بارزا بين أنصار الأمين، فلأن أصحاب مثل هذه الأسماء كانوا تحت سيطرة المأمون فلا يستطيعون التحرك كما يريدون.
على أننا ننكر القضية من أصلها، وهي الزعم أن العرب كانوا مع الأمين، فنحن نقول بان العرب حتى في الجزيرة العربية عش العرب ومنبتهم كانوا مع المأمون. فان والي مكة داود بن عيسى لما بلغه خلع الأمين لأخيه المأمون من ولاية العهد، دعا أهل مكة وأعلن أنه يبايع المأمون بالخلافة وسألهم ما هم فاعلون؟
فاستجاب له وجوه القوم وبايعوا المأمون، ثم استجابت له جماهير الشعب كلها. ويصف الطبري بعض ما جرى قائلا: وجعل الناس يبايعونه جماعة بعد جماعة، ففعل ذلك أياما. ومثل الذي جرى في مكة جرى في المدينة، حيث بايعت جماهير الشعب المأمون وخلعت الأمين.
وجرى مثل ذلك في اليمن أيضا، ويصف الطبري بيعة أهل اليمن بقوله:
فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون واستبشروا بذلك وبايعوا للمأمون وخلعوا الأمين.
وإذا كانت الجزيرة العربية قد خلعت الأمين وبايعت المأمون وأمره لا يزال متأرجحا بين النجاح والفشل، بل أنه كان إلى الفشل أقرب، وإذا كان عرب الحجاز واليمن قد أعلنوا أنهم مع المأمون على الأمين وهم يبعدون عنه عشرات آلاف الأميال.
وإذا كانت مكة والمدينة وصنعاء وهي عواصم العرب الأولى قد أيدت المأمون، فهل يصح القول بان العرب لم يكونوا مع المأمون؟
وإذا كان للمأمون أخوال في خراسان، فما أكثر أعمامه في الحجاز واليمن، ولن يكون الأخوال مهما أشفقوا أكثر إشفاقا من الأعمام.
على أن مما يجب ذكره أن عرب الجزيرة قد أعلنوا المأمون خليفة وبايعوه، من قبل أن يعلن هو ذلك، إذ أنه كان لا يزال مجرد متمرد على خليفة بغداد، ولا يعلم إلى أي مصير سيصير.
وجاء موسم الحج وحال المأمون هو الحال نفسه، ولكن موقف أهل مكة المؤيد جعل طاهر بن الحسين قائد المأمون المتقدم لحصار بغداد يرسل العباس بن موسى ليحج بالناس باسم المأمون، وهو أول موسم دعي فيه للمأمون بالخلافة في مكة والمدينة.
وهكذا أعلنت خلافة المأمون في صميم بلاد العرب قبل أن تعلن في خراسان، وغير خراسان، أعلنها العرب في أقدس مكان عند المسلمين والعرب. ويقول الدكتور منيمنة أن الجيش الخراساني الذي خرج هذه المرة من خراسان ليحمل المأمون إلى سدة الخلافة كان معظم قادته وعناصره من أهل خراسان الفرس. ونقول له: لا دليل على هذا القول بل أن الأمر على العكس ما دام لم يثبت بل ليس من المعقول أن يكون العرب قد أزيلوا من خراسان.
وأننا نستطيع أن نعدد من أسماء قادة ذلك الجيش من العرب كلا من: محمد بن طالوت، ومحمد بن العلاء، والحارث بن هشام، وداود بن موسى، وهادي بن حفص، وقريش بن شبل، والحسن بن علي المأموني. وهذه الأسماء وحدها كافية لتدل على أن القيادة كانت عربية.
وما رأيه إذا قلنا أن فرقة عسكرية يبلغ عدد رجالها نحو خمسة آلاف رجل نص الطبري على أنهم من أهل خراسان انسلخت عن جيش المأمون المحاصر لبغداد وانضمت إلى الأمين.
فإذا كان هؤلاء الرجال فرسا فان خؤولة الفرس للمأمون لم تنفعه بشئ، وأن كانوا عربا فان الطبري قد نص على أنهم من أهل خراسان، إذن فان كلمة أهل خراسان في أيام المأمون لا تعني الفرس، كما يقول الدكتور منيمنة، بل تعني العرب وأن الجيش لم يكن فارسيا.
وما رأيه في أن بغداد العربية نفسها كان فيها الناقعون على الأمين، ولم يمنعهم من الجهر بنقمتهم إلا خوف السلطة. وقد عبر عن هذه النقمة شاعر بغدادي ظل اسمه مجهولا بسبب الخوف فقال يخاطب الأمين وجيوش المأمون مشرفة على حصار بغداد:
يا ناكثا أسلمه نكثه * عيوبه من نكثه فاشيه قد جاءك الليث بشداته * مستكلبا في أسد ضاريه فاهرب ولا مهرب من مثله * إلا إلى النار أو الهاويه والواقع أن هذه الأبيات تعبر عن النقمة الشعبية، وأن الناس عربا وفرسا يرون أن المأمون معتدى عليه، فالأمين هو الذي نكث عهد والده