ويقول عني: إنني لا أبالي أن أقع فيما وقع فيه من قبل المؤرخ ابن الأثير في تحامله على صلاح الدين. إلى آخر ما قال من مثل اتهامه لابن الأثير بتبديله للوقائع وتحريفه للتواريخ وتغليبه للأهواء والغايات.
ثم يقول عني: إنني أعلنت على رؤوس الأرماح انتسابي إلى زمرة ابن الأثير مهما تكن القيمة العلمية والتاريخية له.
أجل يا صديقي إنني لا أبالي بان أقع فيما وقع فيه ابن الأثير، وأنه ليشرفني أن انتسب إلى زمرة ابن الأثير، وإنني لعالم بقيمته العلمية والتاريخية.
أن ابن الأثير هو إحدى الصخرتين اللتين يقوم عليهما التاريخ الاسلامي:
الطبري أولا وابن الأثير ثانيا، وإذا كانت أقوال ابن الأثير لا توافق أهواءك، ولا تؤيد ما لديك من دوافع وخلفيات وغايات فإنك لن تستطيع أن تحطم الصخرة بكلمة جوفاء تنشرها على صفحات الجريدة، وقد جرب ذلك قبلك الوعل فأدمى قرنيه ولم يضر الصخرة.
وأنك تصر دائما على أن كل من يخالف آراءك هو متحامل فابن الأثير متحامل وابن شداد متحامل وحسن الأمين متحامل، وعلى هذا المنوال لن تستطيع احصاء المتحاملين.
أنك تتهم ابن الأثير بالباطل، فابن الأثير يثني على صلاح الدين فيما يوجب الثناء، ولم يقل كلمة واحدة تمس صلاح الدين. ولكنه وهو المؤرخ الثقة الأمين لا يستطيع أن لا يذكر في كتابه رفض صلاح الدين أن يفتح جبهة قتال للصليبيين تبدأ من حدود مصر بينما يفتح نور الدين جبهة تبدأ من حدود بلاد الشام، ولا أن لا يسجل احتماء صلاح الدين من نور الدين بالصليبيين وتفضيله الاحتلال الصليبي على أن يكون تابعا لنور الدين. وطبيعي أن لا يستطيع ذلك وهو مؤرخ العصر المفروض فيه تسجيل كل وقائعه، وضاقت بك الدنيا لهذه الحقائق المرة فلم تجد للخروج من مأزقك سوى الشتيمة وسوى سب ابن الأثير ثم سب ابن شداد.
وليس ابن الأثير وحده الذي ذكر ذلك، بل ذكره كل المؤرخين ومنهم صنيعة صلاح الدين وعميله أبو شامة، فهل هو الآخر له ضغينة على صلاح الدين ومتحامل عليه؟ ولن ننقل هنا أقواله لأنها لا تختلف كثيرا عن أقوال ابن الأثير، بل سننقل أقوال مؤرخ آخر هو ابن العديم، قال ابن العديم:
سار الملك الناصر صلاح الدين من مصر غازيا فنازل حصن الشوبك وحصره، فطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فلما سمع نور الدين بذلك سار عن دمشق فدخل بلاد الإفرنج من الجهة الأخرى، فقيل للملك الناصر صلاح الدين: أن دخل نور الدين من جانب وأنت من هذا الجانب ملك بلاد الإفرنج، فلا يبقى لك معه بديار مصر مقام، وإن جاء وأنت ها هنا فلا بد من الاجتماع به ويبقى هو المتحكم فيك بما يشاء، والمصلحة الرجوع إلى مصر فرحل عن الشوبك إلى مصر.
إذن فقد بدت طلائع النصر وقرر صليبيو الشوبك التسليم، واقتحم نور الدين الحدود من الجهة الأخرى وانحصر الصليبيون بين الجبهتين.
وفجأة ينسحب صلاح الدين من المعركة ويعود إلى مصر، فيضطر نور الدين للانسحاب وتضيع الفرصة العظيمة، ولماذا؟ لأن صلاح الدين يرفض أن يحكم البلاد نور الدين ويفضل تركها بيد الصليبيين على أن يحكمها نور الدين وهو تابع له.
هذا يا صديقي العزيز بعض ما أنكرناه على صلاح الدين، ولم نكن نحب لك أن تقف مدافعا عن هذا الموقف انطلاقا من دوافع وخلفيات وغايات، وأن يصل بك الأمر إلى النيل من المؤرخ العظيم ابن الأثير لأنه لا ينطلق من الدوافع والخلفيات والغايات التي تنطلق منها أنت وأمثالك.
ويوم تحاول، عبثا، تحطيم سمعة ابن الأثير فهل تظن أنه سيبقى حرمة للتاريخ الاسلامي؟
وها أنت ترى أن ليس ابن الأثير وحده هو الذي يروي ذلك، فهل كل هؤلاء المؤرخين مفترون مزورون، لأنهم لا ينطلقون مما تنطلق منه أنت و أمثالك؟
نقول نحن قال ابن الأثير، فيرد علينا: قال هاملتون جب لا يا صديقي العزيز، أن تاريخنا لا نأخذه من المستشرق الانكليزي هاملتون جب، إننا نأخذه من ابن الأثير وابن شداد وابن العديم وأمثالهم ولن تبلغ بنا الضعة أن تدع للانكليز أن يدونوا تاريخنا، ولن يكونوا هم مصدر هذا التاريخ. إننا نحن الذين نسجل تاريخنا، ولن يكون مصدرنا ما يكتبه هاملتون جب، بل ما هو مدون في الكامل. والأعلاق الخطيرة وأمثالهما.
وإذا كنت اليوم تعتمد في التاريخ الاسلامي هاملتون جب، فقد اعتمدته قبل اليوم في العقائد الاسلامية، ولعلك لم تنس ذلك.
ونحن لم نقول ابن الأثير ما لم يقله كما تزعم، بل نقلنا قوله بنصه، ولم نطرح احتمالات غامضة وملتبسة كما تدعي، بل طرحنا حقائق واضحة صريحة لا غموض فيها ولا التباس، ولا تستطيع أن تغطي السماوات بالقبوات، بارسال جمل متكلفة لا محصل لها، فالقبوات أضيق من أن تتسع لتغطية السماوات. وما قلناه لم يكن اجتهادا كما تقول، بل كان نصوصا وأي نصوص، نصوصا أنت أعجز من أن تقف لها. وقد بان عجزك.
وما شان الظاهر بيبرس في موضوعنا لتحاول أن تتغطى به، أما قولك: أن الواقع يكذب الاحتمال وإلا لاستمرت ممالك الصليبيين حتى يومنا، فنرد عليه بأننا لم نحتمل احتمالا بل قررنا واقعا، والذين أزالوا ممالك الصليبيين ولم تبق بسببهم حتى اليوم ليسوا صلاح الدين وورثة صلاح الدين. ونحن لم نقل أن الحرب لم تقم بعد زوال صلاح الدين وورثته، بل قلنا وسنظل نقول: أن صلاح الدين أعاد للصليبيين ما استرده منهم، أعاد لهم فلسطين عدا القدس، وأدت تصرفاته الشخصية لأن يعيد القدس نفسها للصليبيين أولاد أخيه، وأنه هو نفسه عقد الصلح مع الصليبيين وأنهى معهم حالة الحرب وما يستتبع ذلك من اعتراف بوجودهم وسلطتهم وأنه بعد معركة حطين وبعد هذا الاستسلام لم يشرع صلاح الدين ولا ورثته رمحا ولا جردوا سيفا ولا أطلقوا سهما على الصليبيين وأن الأمر عاد هوانا في هوان.
وأنك في كل ما درت به ولففت، وفي كل ما نمقته من عبارات وزخرفته من كلمات، ولوحت من تهويلات، لم تستطع أن تنفي حرفا واحدا مما قررنا، وكل ما فعلته أنك سببت ابن الأثير وألحقت به في السب ابن شداد صديق صلاح الدين، وصديق صديقك هو صديقك كما يقولون وهكذا حملك التخبط على أن تتناول بالسباب أصدقاءك وأعداءك على السواء.
ويؤسفنا يا صديقنا العزيز أننا كنا السبب في إيصالك إلى هذه النتيجة المؤلمة المخزية.
أن الحرب لم تقم على الصليبيين بعد الاستسلام لهم وإضاعة ثمرات معركة حطين إلا بزوال صلاح الدين وورثته وانقراضهم، والتهويل بالألفاظ المنمقة والجمل المزخرفة مثل قولك: لقد أصر السيد الأمين على رؤية حقائق