الأمر كله بسطر واحد يقول فيه: أن ما تدعيه غير صحيح وأن صلاح الدين لم يسلم حيفا ويافا وقيسارية بل فلسطين كلها ما عدا القدس للصليبيين بعد أن استردها منهم.
ولكنه لم يستطع أن ينكر ذلك وراح يهوش ويشتم ويحرض ويثير الضغائن ويملأ أعمدة الجريدة بكلام فارع.
لم يكتب السطر الذي ينهي الأمر كما قلنا وأنى له أن يكتب هذا السطر وصحف التاريخ أمامه تصفعه وتصفع أمثاله.
ثم عدنا نقول له كلاما نقلناه بنصه من كتاب الكامل لابن الأثير وفيه يقول حرفيا بان صلاح الدين كان يحتمي من نور الدين بالصليبيين.
وكان يكفيه هنا أيضا أن يكتب سطرا واحدا، ولكن كيف يستطيع كتابة هذا السطر وصفعات التاريخ تنهال عليه صفعة وراء صفعة.
لقد فر من كتابة هذا السطر ولجأ إلى عشرات السطور يتخبط بها ما شاء له التخبط ويحاول الوصول ولو إلى قشة يتمسك بها وهو يرى نفسه غريقا في بحر الضلال فلم يستطع أن يصل حتى إلى هذه القشة.
لقد استرسل في هذيان لا يعنينا أن نلتفت إليه، ولكننا نريد أن ندل القارئ على ثلاثة أشياء نفرزها من ذلك الهذيان:
1 لقد عدد هذا الرجل المدن والقرى التي دخلتها القوى الاسلامية بقيادة صلاح الدين.
لقد عددها كأننا ننكر ذلك، مع أننا قلناه ونقوله ونكرر الآن قوله.
ولكن هل كان هذا موضوع كلامنا، أن ما جرى من دخول تلك المدن هو نتيجة حتمية للنصر في معركة حطين وهو جزء من تلك المعركة. نحن لم نعرض له بشئ. ولكننا عرضنا لما جرى بعده وقلنا بملء الفم قولا واضحا صريحا. أن أعمال صلاح الدين بعد هذا الذي جرى قد أبطلت نتائج كل ما جرى.
لم يخجل من أن يذكر فيما عدده من المدن والقرى أسماء حيفا وقيسارية والرملة، وهي من البلدان التي ذكرنا أن صلاح الدين أعادها للصليبيين.
2 يقول هذا الرجل ما نصه بالحرف: كما يبدو وفاء صلاح الدين لنور الدين عميقا بعد وفاة نور الدين.
ونقول له: أن هذا الوفاء تجلى كل التجلي في المعاملة التي عامل بها صلاح الدين ابن ولي نعمته نور الدين.
لقد كان هذا مقيما في حلب وكان على صغر سنه محاطا برعاية الحلبيين لاعتباره ملكهم المقبل وفاء لنور الدين فكان أول ما فعله صلاح الدين أن قصد إلى حلب ليقضي عليه. ونترك الكلام هنا لابن الأثير: لما ملك صلاح الدين حماه سار إلى حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة فقاتله أهلها وركب الملك الصالح ابن نور الدين وهو صبي وعمره اثنتا عشرة سنة وجمع أهل الحلب وقال لهم: قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم وأنا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى ولا الخلق، وقال من هذا كثيرا وبكى وأبكى الناس فبذلوا له الأموال والأنفس واتفقوا على القتال دونه والمنع عن بلده إلى آخر ما قال ابن الأثير.
هذا هو وفاء صلاح الدين لنور الدين: في حياته، يحتمي منه بالصليبيين و بعد موته يحاول القضاء على ولده ذي الاثنتي عشرة سنة.
ليس ما يحركنا إلى كتابة ما نكتب هو ما يريد أن يوهم القراء به استدرارا لعطفهم واستثارة للشرور. بل أن الذي يحركنا هو الحقيقة وحدها.
تدخل شخص آخر وتدخل شخص آخر فرد على ردي، فرددت عليه بما يلي:
: الصديق المتواري وراء طلال المنجد نبعث له قبل البدء بمناقشة أقواله بتحية صداقة عاطرة، ونقول له: أن تسمية رأي تاريخي برجل تاريخي تحاملا هو التحامل الذي ما بعده تحامل.
إننا نطرح قضية تاريخية محضة وعلى من لا يرى رأينا أن يدحض هذا الرأي بالحجة لا بترديد ألفاظ التحامل وأمثال التحامل، مما هو سلاح العاجزين.
ولماذا يعتبر نقد صلاح الدين من الأمور المألوفة في بعض الكتابات انطلاقا من دوافع وخلفيات وغايات ولا يكون التحمس لطمس الحقائق التاريخية الواضحة التي تلتصق بشخص صلاح الدين من الأمور المألوفة في كل الكتابات لا في بعضها انطلاقا من دوافع وخلفيات وغايات. وإذا كان الصديق المتواري يدعو إلى الدقة والرصانة والعلمية والموضوعية في الأبحاث التاريخية، فإننا نقول له: لقد كنا فيما كتبناه في أعلى درجات الدقة والرصانة والعلمية والموضوعية لأننا لم نختلق شيئا ولأننا اعتمدنا على مؤرخين هم وحدهم المصدر الأساس لكل من يكتب في التاريخ وفيهم من هو ألصق الناس بصلاح الدين ومن عاشوا في نعمه وكانوا من موظفيه المنافحين عنه.
ويروع الكاتب المتواري عن هذه الحقيقة ويدور ويلف ثم لا يستطيع إلا أن يعترف بها، ولكنه يحاول تغليف اعترافه بقوله عن بهاء الدين ابن شداد:
سيرة صلاح الدين التي وضعها ابن شداد ابتداء من 1188 عام التحق ابن شداد بصلاح الدين كقاض للجيش الأيوبي. وقبل ذلك العام كان بهاء الدين ملازما الموصل ولم يكن يستطيع الرواية إلا بطريقة غير مباشرة وغالبا ما أثبتت الدراسات المقارنة وقوعه في أخطاء التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني، إلى آخر ما قال من مثل هذا اللف والدوران. ونقول له:
أن الوقائع التي لم يستطع ابن شداد إلا أن يذكرها كانت وهو صفي لصلاح الدين، وكذلك لا ينطبق عليها قولك: وغالبا ما أثبتت الدراسات المقارنة وقوعه في أخطاء التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني.
فهو عند ما يقول مثلا عن تسليم صلاح الدين مدينة حيفا للصليبيين:
لم تزل في أيدي الفرنج إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثلاث وثمانين فلم تزل في يده إلى أن نزل عنها للفرنج فيما نزل عنه لهم في المهادنة التي وقعت بينه وبينهم وذلك سنة ثمان وثمانين وخمس مائة، ولم تزل بعد في أيديهم.
وعند ما يقول عن تسليمه مدينة يافا: وشرطوا الصليبيون عليه ابقاءها في أيديهم. عند ما يقول ابن شداد هذه الأقوال الواضحة الصريحة الدالة على أن الموقف كان هوانا في هوان واستسلاما في استسلام، وأن الصليبيين كانوا يشترطون وصلاح الدين يخضع لشروطهم. عند ما يقول ذلك لم يقله وهو في الموصل، لم يقله وهو بعيد عن الأحداث، بل كان في صميمها، ولم يروه بطريقة غير مباشرة، بل بطريقة مباشرة، طريقة شاهد العيان. وليس في هذا القول وقوع في أخطاء التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني.
وما شان التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني في تسليم حيفا ويافا للصليبيين والنزول على شروطهم؟ وأي تفصيلات وأي وثائق وأي تسلسل زمني في أمرتم في غاية البساطة والسهولة؟ وهو أمر باد ظاهر يراه كل الناس، ولا يستطيع ابن شداد تجاهله وتاليا لا تستطيع أنت إنكاره، ولكن يصعب عليك الاعتراف به فرحت تدور وتلف، ثم تدور وتلف ولكن بلا جدوى.