الذي عرضه منافساه. وبذلك يكون الملوك الأيوبيون الثلاثة: الصالح أيوب والصالح إسماعيل والناصر داود قد أقروا مبدأ استيلاء الصليبيين على الحرم الشريف على حد تعبير بعض المؤرخين.
على أن الصليبيين اختاروا الوقوف إلى جانب الصالح إسماعيل صاحب دمشق لأنه أقرب إليهم من صابح مصر. وبالتالي فهو أكثر قدرة على التحكم في مصائرهم. فشرع الصالح إسماعيل في غزو مصر بمساعدة حليفيه الناصر داود صاحب الكرك والمنصور إبراهيم ملك حمص، مع الصليبيين، وتقرر أن تجتمع قوات الحلفاء جميعا عند غزة.
فاستنجد الصالح أيوب بالخوارزمية (1) فأنجدوه بعشرة آلاف منهم ساروا من إقليم الجزيرة فمروا بدمشق، ثم استولوا على طبرية ونابلس ثم القدس سنة 642 1644 م فعادت القدس نهائيا إلى المسلمين.
والعادل: أعاد للصليبيين سنة 1204 ما كان قد ورثه عن صلاح الدين من المواقع الساحلية، ما عدا الشقة المحصورة في اللاذقية.
هذا هو الجهاد المتواصل الذي أكمله من جاءوا بعد صلاح الدين من ورثته.
يقول هاشم الأيوبي عن مقالنا: أنه لا يحمل أية قيمة تاريخية أو علمية.
ونقول له ولا فخر أن كل العلم وكل التاريخ في هذا المقال. ذلك أنه استند إلى مصادر كبرى ووقائع معينة، حدد مكانها وزمانها، ما لم يستطع معه الأيوبي أن ينكر شيئا منها، بل عمد إلى مثل هذه التهويشات التي يلجأ إليها العاجزون حين تفحمهم الحقائق الناصعة، فلا يرون غير الشتائم ملاذا يعوذون به...
التهويشات التي لا تستطيع أن تجعل من الحق باطلا ومن الباطل حقا.
ومن أطرف الطرائف وأضحك المضحكات أن دليل الأيوبي على أن المقال لا يحمل قيمة علمية أو تاريخية، هو أني صرحت باني عمدت إلى أول كتاب وقع عليه نظري فتناولته.
نعم: أن أول كتاب وقع عليه نظري كان كتاب الأعلاق الخطيرة في امراء الشام والجزيرة لابن شداد، وحسب المقال ليكون حاملا للعلم والتاريخ أن يكون مستندا إلى ابن شداد صاحب الأعلاق الخطيرة.
وقد عمدت الآن مرة ثانية إلى أول كتاب وقع عليه نظري فكان كتاب الكامل لابن الأثير فإذا بي اقرأ فيه ما يلي:
كان المانع لصلاح الدين من غزو الفرنج الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين متى زال عن طريقه الفرنج أخذ البلاد منه فكان يحتمي بهم عليه ولا يؤثر استئصالهم، وكان نور الدين لا يرى إلا الجد في غزوهم بجهده وطاقته، فلما رأى إخلال صلاح الدين بالغزو وعلم غرضه تجهز بالمسير إليه، فاتاه أمر الله الذي لا يرد.
ومع أن هذا الكلام واضح كل الوضوح، نحب أن نزيده لهاشم الأيوبي وضوحا فنقول: كان وضع مصر وبلاد الشام يومذاك يشبه الوضع الذي كانت عليه مصر وسورية أيام قيام الوحدة بينهما باسم الجمهورية العربية المتحدة. فكما أن كيان العدو اليهودي كان الفاصل بين سورية ومصر المتحدتين كان الكيان الصليبي يفصل بين مصر وبلاد الشام المتحدثين، والفرق بين الحالين: هو أن العاصمة أيام الصليبيين كانت دمشق، وأنها في أيام الصهاينة كانت القاهرة، فكان صلاح الدين معتبرا تابعا لنور الدين وواليا من ولاته. فقرر نور الدين استئصال الصليبيين بان يحصرهم بين جبهتين: جبهة مصر، وجبهة بلاد الشام، فيزحف هو من دمشق، ويزحف صلاح الدين من القاهرة فيضطر الصليبيون للقتال على جبهتين، لذلك أوعز إلى صلاح الدين أن يتقدم بالجيش المصري ليتقدم هو بالجيش الشامي، ولكن صلاح الدين رفض الامتثال لأوامر نور الدين، أي أنه أعلن إيقاف حال الحرب بين مصر والصليبيين والتاريخ كما يقال يعيد نفسه دائما.
وابن الأثير كان واضحا في تبيان السبب الذي دعا صلاح الدين لاخراج مصر من الحرب مع الصليبيين، ذلك أن الاحتلال الصليبي لفلسطين كان يعطي صلاح الدين انفصالا كاملا عن المملكة المتحدة، وتبقى تبعيته لها اسمية فقط، فإذا زال الكيان الصليبي من فلسطين تم الاتصال بين بلاد الشام سورية وفلسطين ولبنان والأردن وبين مصر وتصبح مملكة واحدة يكون لصلاح الدين المكان الثاني فيها بعد نور الدين، بل يصبح مجرد حاكم لمصر تابع فعليا لا إسميا لنور الدين، وهذا ما لا يرضي مطامع صلاح الدين الشخصية، لذلك آثر التمرد على نور الدين وإخراج مصر من الحرب المأمولة لاستئصال الصليبيين.
وغضب نور الدين لذلك، وصمم على التفرع لصلاح الدين أولا وتسليم حكم مصر لمن يعيد مصر إلى حال الحرب مع الصليبيين، ولما أعد عدته للزحف على مصر وإزاحة صلاح الدين فاجأه الموت.
وكما ساء هاشم الأيوبي مبادرتنا في المرة الأولى إلى أول كتاب وقع عليه نظرنا في خزانة الكتب فكان كتاب الأعلاق الخطيرة، فسيسوءه ولا شك إن كان أول كتاب وقع عليه نظرنا هذه المرة هو كتاب الكامل لابن الأثير، فيقول عن قولنا المعتمد على كتاب الكامل أنه قول لا يحمل قيمة علمية أو تاريخية.
ويوم يكون الكامل والأعلاق الخطيرة لا قيمة علمية أو تاريخية لهما، فإننا يسرنا أن نكون في زمرة ابن الأثير وابن شداد، وأن تكون لنا القيمة العلمية والتاريخية التي لهما.
ونرجو أن لا يضطرنا هاشم الأيوبي لأن نخرج من خزانة الكتب أول كتاب يقع عليه نظرنا للمرة الثالثة فنريه ما هو أدهى وأمر.
ورد مرة ثانية فأجبته بما يلي:
لقد كنا نحسب أننا ناقش بحثا تاريخيا محضا أدلينا منه بأحاديث دونتها أمهات كتب التاريخ، وكنا نفترض أن نلقى من يناقش هذه الأحاديث فيدحضها أو يثبتها، فإذا بنا أمام بؤرة سفاهة تعجز عن رد الحجة بالحجة ولا تستطيع نقض ما أبرمنا وإنكار ما أوردنا فتلجأ إلى ما تفيض به من سفاهة.
أما الدركة التي انحدر إليها في حديثه عن الأفاعي الشعوبية، فإننا أرفع رؤوسا وأكرم نفوسا وأشمخ أنوفا وأنصع صفحات وأروع وقفات من أن يصلى إلى كعوب أحذيتنا مثله من حشرات.
أما تعريضاته الأخرى التي جمجمت بها كلماته وتلجلجت فلن تروعنا في شئ.
وأما ما لجا إليه مما كان يلجأ إليه أمثاله في ماضي الأزمان من التهويل على المعتقدات ولمزها والتخويف بها، فإننا نقول له أنه ينسى أن الزمن تبدل وأننا نعيش الآن في أواخر القرن العشرين ويقصر معه لسانه عما كانت تطول به ألسنة الغابرين من سيئ القول وفحش الوصف وفظيع الشر.
لقد حددنا الوقائع وعينا زمانها ومكانها وكان يستطيع هذا الرجل أن ينهي