أخيه العادل وخربها وبقيت خرابا إلى أن تقررت الهدنة بين الملك الناصر صلاح الدين وبين الفرنج وشرطوا عليه ابقاءها في أيديهم.
ولنلاحظ هنا كلمة شرطوا عليه ودلالتها المؤلمة التي توضح لنا أن صلاح الدين هو المتوسل لطلب الهدنة وأن الفرنج هم واضعو الشروط.
ليس ما ذكرناه هنا كل النصوص لهذه الحقائق، ولم نخترها اختيارا، وإنما عمدنا إلى أول كتاب وقع عليه نظرنا في خزانة الكتب فتناولناه فكان كتاب الأعلاق الخطيرة.
وتلا هذا التسليم للصليبيين فعل أنهى كل تفكير في مقاومتهم وأجلائهم عن البلاد في المستقبل، بل أدى إلى ما هو شر من ذلك أدى إلى توسيع رقعة احتلالهم، وتمكينهم في مناطق أخرى غير التي مكنهم منها صلاح الدين نفسه.
كان ورثة صلاح الدين من أخ وأولاد كثيرين فرأى أن يقسم البلاد بينهم، وأن يقطع كل واحد منهم جزءا من الوطن يستقل به عن غيره، وهكذا فلم يكد يموت صلاح الدين حتى انفرد كل واحد من إخوته وأولاده بالرقعة التي خصصت به، فعاد الوطن مزقا بين الورثة، ونسي هو ونسي ورثته أن الاحتلال الصليبي لا يزال جاثما على صدر الوطن، وأن ذلك لا يستدعي تمزيق الوطن وتشتيت شمل حكامه، بل يستدعي تماسك وحدته وتضافر أمرائه، ولم يقنع كل واحد من هؤلاء الورثة بما تحت يده من مخلفات صلاح الدين بل راحوا يتنازعون ويتقاتلون، ويستنصرون في هذا التنازع والتقاتل بالصليبيين مغرين إياهم باعطائهم ما يشاؤون من بلاد وعباد!
ولن نسترسل في تفاصيل تلك النزاعات وتلك الأعطيات، بل سنكتفي بذكر واحدة منها هي الطامة الكبرى التي قضت على كل ثمرة من ثمرات معركة حطين، وأضاعت كل نتيجة من نتائجها، وجعلتها كأنها لم تكن.
فإذا كان استرداد القدس على يد صلاح الدين قد أكسب ذلك الزمن كل ذلك التألق وأعطاه كل ذلك الوهج، ثم خدر الأفكار والعقول وأعماها عن التبصر في الحقائق، فان تصرف صلاح الدين نفسه قد أطفأ ذلك الألق ومحا ذلك الوهج، وإن لم يبطل مفعول المخدر، فكان من تقسيمه البلاد بين أقربائه وما نتج من تنازعهم وتشاكسهم واستنصارهم بعضهم على بعض بالصليبيين، أن ولدي أخيه العادل وهما الكامل والأشرف سلما إلى الصليبيين القدس نفسها وأعاداهم إليها.
وهكذا إذا كان الانتصار في معركة حطين يثير في النفس البهجة، فان البهجة لا تلبث أن تتلاشى حين نتذكر التصرفات التي أعقبت المعركة وذهبت معها دماء المقاتلين هدرا وفي سبيل لا شئ.
وقد رد علي راد فرددت عليه بما يلي:
الواقع أني كنت رفيقا كل الرفق بصلاح الدين الأيوبي، وتعمدت أن لا أصدم المخدرين صدمات قوية فاجعة، لا ترك لهم منفذا ولو كسم الخياط يتعللون به في مرور 800 سنة على معركة حطين.
يقول هاشم الأيوبي: فهذه السنوات القصيرة بين حطين ووفاة صلاح الدين كانت جهادا متواصلا أكملها من جاءوا بعده حتى تسنى لهم طرد الصليبيين نهائيا.
ونقول له: كلا، أنها كانت استسلاما متواصلا، ونتحداه أن يذكر لنا معركة واحدة جرت بعد استسلام صلاح الدين وتسليمه البلاد للصليبيين. نعم نتحداه ونقول له: إن تلك السنوات كانت استسلاما في استسلام وهوانا في هوان، وأن سهما واحدا لم يرم، ورمحا واحدا لم يشرع، وسيفا واحدا لم يجرد في تلك المدة في وجه الصليبيين... نقول هذا في تحد صارم لا هوادة فيه.
وقد كنت أحسب أنه بقي للخجل مكان فيمتنع سليل الأيوبيين إن صح أنه من سلالتهم عن القول أن الجهاد المتواصل أكمله من جاءوا بعد صلاح الدين حتى تسنى لهم طرد الصليبيين.
ان الذين جاءوا بعد صلاح الدين من أسلافك قد واصلوا المهمة، ولكن لا مهمة الجهاد بل مهمة الاستسلام والذل، مهمة تسليم البلاد للصليبيين:
ولن نعدد كل أفعالهم بل سنورد له أمرين اثنين فقط.
أن الذي فعله صلاح الدين هو أنه سلم فلسطين كلها للصليبيين ما عدا القدس، وأعاد إليهم ما كان قد أخذه منهم بعد معركة حطين كما بيناه في مقال سابق. ولم يبق في يده إلا بعض ما يعرف اليوم بالجمهورية اللبنانية ما عدا صور التي ظل الصليبيون متمسكين بها. أما الذين جاءوا بعد صلاح الدين فقد تنازلوا للصليبيين حتى عن هذا الذي بقي بيد صلاح الدين من لبنان والسواحل السورية.
فالكامل والأشرف مثلا سلما القدس للملك الصليبي فريدريك الثاني وهل يعتبر هاشم الأيوبي تسليم القدس للصليبيين جهادا متواصلا؟
وقد مر تسليم خلفاء صلاح الدين القدس للصليبيين بالأدوار التالية:
1: بعد تسليم الكامل والأشرف القدس للملك الصليبي فريدريك الثاني سنة 655 ه 1228 م ظلت في يد الصليبيين حتى استردها منهم الناصر صاحب الكرك سنة 637 ه 1239 م.
2: استنجد الصالح إسماعيل صاحب دمشق بالصليبيين ليساعدوه على ابن أخيه الصالح أيوب صاحب مصر، وعلى الناصر داود صاحب الكرك مسترد القدس. وأعاد إليهم لقاء ذلك القدس 641 1244 م، كما سلمهم صفد وعسقلان وطبرية وأعمال كل منهما، وجميع جبل عامل بما منه قلاع هونين وتبنين والشقيق ومدينة صيدا أو سائر بلاد الساحل، وهكذا عادت القدس مرة ثانية إلى الصليبيين.
ووعد الصالح إسماعيل الصليبيين أيضا بأنه إذا ملك مصر أعطاهم بعضها. فاستعد الصليبيون لمهاجمة مصر وزحفوا إلى غزة، في حين كون الصالح إسماعيل حلفا من بعض الملوك الأيوبيين في شمال الشام وزحفوا جميعا إلى حلفائهم الفرنج عند غزة.
أما الصالح نجم الدين أيوب فقد تقدم من مصر إلى غزة لمواجهة هذا الهجوم. ولما بين لعساكر الشام حقيقة الموقف تمردوا على قوادهم ومالوا على الفرنج مع الصالح أيوب فالتزم الفرنج وانسحبوا إلى عسقلان، وفاوضوا الصالح أيوب سنة 638 1240 م فاعترف لهم بحقهم في ملكية الشقيق ونهر الموجب أرنون وإقليم الجليل بالإضافة إلى القدس وبيت لحم ومجدل بابا وعسقلان.
وهكذا فلم يكن الصالح أيوب خيرا من الصالح إسماعيل.
وهنا تحالف الصالح إسماعيل مع الناصر داود واستنجدا من جديد بالصليبيين مقابل جعل سيطرتهم على القدس كاملة، بمعنى أن يستولي الصليبيون على الحرم الشريف بما فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهي الأماكن التي طلت، ولو نظريا في حوزة المسلمين عند ما سلم الكامل ولأشرف القدس للصليبيين سنة 625 1228 م.
وهنا تقدم الصالح أيوب إلى الصليبيين طالبا مساعدتهم مقابل الثمن نفسه