العظيم للناس فكف عن البناء ورجع إلى وليلى.
ثم بعث وزيره عمير بن مصعب الأزدي يرتاد موضعا يبني فيه المدينة التي عزم عليها، فسار عمير في جماعة يقص الجهات ويتخير البقاع والترب والمياه، حتى انتهى إلى فحص سايس، فأعجبه المحل فنزل هناك على عين ماء تطرد في مرج أخضر، فتوضأ وصلى الظهر هو وجماعة الذين معه، ثم دعا الله تعالى أن ييسر عليه مطلبه، ثم ركب وحده وأمر الجماعة أن ينتظروه حتى يعود إليهم، فنسب العين إليه من يومئذ ودعيت عين عمير، ثم أوغل في فحص سايس حتى انتهى إلى العيون التي ينبع منها وادي فاس، فرأى مياها تطرد في فسيح من الأرض وحول العيون التي شعراء من شجر الطرفاء والطخش والعرعار والكخ وغير ذلك، فشرب من الماء فاستطابه، ونظر إلى ما حوله من المزارع التي ليست على نهر سبو فأعجبته، فانحدر مع مسيل الوادي حتى انتهى إلى موضع مدينة فاس اليوم، فنظر فإذا ما بين الجبلين غيضة ملتفة الأشجار مطردة العيون والأنهار، وفي جانب منها خيام من شعر يسكنها قوم من زواغة يعرفون ببني الخير، وقوم من زناتة يعرفون ببني يرغش وكان بنو يرغش على دين المجوسية وبعضهم يهود وبعضهم نصارى.
وكان بنو الخير ينزلون بعدوة القرويين وبنو يرغش ينزلون بعدوة الأندلس، وكان قلما يفترون عن القتال لاختلاف أهوائهم وتباين أديانهم.
فرجع عمير إلى إدريس وأعلمه بما رأى من الغيضة وساكنيها وما وقع عليه اختياره فيها فجاء إدريس لينظر إلى البقعة فألفى بني الخير وبني يرغش يقتتلون فأصلح بينهم وأسلموا بعد ذلك على يده واشترى منه الغيضة بستة آلاف درهم، فرضوا بذلك ودفع لهم الثمن.
ثم ضرب أبنيته بكرادة وشرع في بناء المدينة فاختط عدوة الأندلس غرة ربيع الأول سنة 192.
وفي سنة ثلاث بعدها اختط عدوة القرويين وبنى مساكنه بها وانتقل إليها. وكان أولا أدار السور على عدوة الأندلس وبنى بها الجامع المعروف بجامع الأشياخ، وأقام فيه الخطبة، ثم انتقل ثانيا إلى عدوة القرويين كما قلنا ونزل بالموضوع المعروف بالمقرمدة وضرب فيه قيطونه وأخذ في بناء جامع الشرفاء وأقام فيه الخطبة أيضا، ثم شرع في بناء داره، ثم بنى القيسارية إلى جانب المسجد الجامع، وأدار الأسواق حوله وأمر الناس بالبناء وقال لهم: من بنى موضعا أو اغترسه قبل تمام السور فهو له.
فبنى الناس من ذلك شيئا كثيرا واغترسوا، ووفد عليه جماعة من الفرس من أرض العراق فأنزلهم بغيضته هناك كانت على العين المعروفة بعين علوان.
ثم أدار السور على عدوة القرويين وكانت من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء.
قال عبد الملك الوراق: كانت مدينة فاس في القديم بلدين لكل بلد منهما سور يحيط وأبواب تختص به، والنهر فاصل بينهما، وسميت إحدى العدوتين عدوة القرويين لنزول العرب الوافدين إليها من القيروان بها، وسميت الأخرى عدوة الأندلس لنزول العرب الوافدين من الأندلس بها.
وذكر ابن غالب في تاريخه أن إدريس لما فرع من بناء مدينة فاس وحضرت الجمعة الأولى صعد المنبر وخطب الناس ثم رفع يديه في آخر الخطبة فقال:
اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة، ولا مفاخرة، ولا رياء، ولا سمعة، ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها ويتلى بها كتابك وتقام بها حدودك وشرائع دينك، وسنة نبيك محمد ص ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عليه وأكفهم مؤونة أعدائهم وأدر عليهم الأرزاق وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنك على كل شئ قدير غزو إدريس المغربين أقام إدريس بفاس إلى سنة 197 ثم خرج غازيا بلاد المصامدة فانتهى إليها واستولى عليها ودخل مدينة نفيس ومدينة أغمات (1)، وفتح سائر بلاد المصامدة، وعاد إلى فاس فأقام بها إلى سنة 199. فخرج في المحرم لغزو قبائل نفزة من أهل المغرب الأوسط ومن بقي هناك على طريقة الخوارج من البربر، فسار حتى غلب عليهم ودخل مدينة تلمسان، فنظر في أحوالها وأصلح سورها وجامعها وصنع فيها منبرا. وبقي في تلمسان ثلاث سنين ثم رجع إلى مدينة فاس.
قال داود بن القاسم الجعفري: شهدت مع إدريس بن إدريس غزواته مع الخوارج الصفرية من البربر، فلقيناهم وهم ثلاثة أضعافنا فلما تقارب الجمعان نزل إدريس فتوضأ وصلى ركعتين ودعا الله تعالى ثم ركب فرسه وتقدم للقتال، قال: فقاتلناهم قتالا شديدا، فكان إدريس يضرب في هذا الجانب مرة، ويكر في هذا الجانب الآخر مرة، ولم يزل كذلك حتى ارتفع النهار، ثم رجع إلى رايته فوقف بإزائها والناس يقاتلون بين يديه، فطفقت أتأمله وأديم النظر إليه وهو تحت ظلال البنود يحرض الناس ويشجعهم، فأعجبني ما رأيت من ثباته وقوة جأشه: فالتفت نحوي وقال: يا داود ما لي أراك تديم النظر إلى؟. قلت: أيها الامام إنه قد أعجبني منك خصال لم أرها اليوم في غيرك.
قال وما هي؟. قلت: أولاها ما أراه من ثبات قلبك وطلاقة وجهك عند لقاء العدو. قال: ذاك ببركة جدنا ودعائه لنا وصلاته علينا، ووراثة من أبي علي بن أبي طالب الخبر.
وفاة إدريس قال ابن خلدون: انتظمت لإدريس بن إدريس كلمة البربر وزناتة ومحا دعوة الخوارج منهم واقتطع المغربين عن دعوة العباسيين من لدن السوس الأقصى إلى وادي شلف (2)، ودافع إبراهيم بن الأغلب عن حماه بعد ما ضايقه بالمكايد واستفساد الأولياء حتى قتلوا راشدا مولاه. وارتاب إدريس بالبربر فصالح ابن الأغلب وسكن من غربه وضرب السكة باسمه وعجز الأغالبة بعد ذلك عن مدافعة هؤلاء الأدارسة، ودافعوا خلفاء بني العباس بالمعاذير الباطلة. وصفا ملك المغرب لإدريس واستمر بدار ملكه من فاس ساكنا وادعا، مقتعدا أريكته، مجتنيا ثمرته إلى أن توفاه الله ثاني جمادى الآخرة سنة 213، وعمره نحو ست وثلاثين سنة، ودفن بمسجده بإزاء الحائط الشرقي منه. وقال آخرون: إنه توفي بمدينة وليلى ودفن إلى جنب أبيه.
ويقال عن سبب وفاته أنه أكل عنبا فشرق بحبة فمات لحينه، وخلف من