مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٤٨
العظيم للناس فكف عن البناء ورجع إلى وليلى.
ثم بعث وزيره عمير بن مصعب الأزدي يرتاد موضعا يبني فيه المدينة التي عزم عليها، فسار عمير في جماعة يقص الجهات ويتخير البقاع والترب والمياه، حتى انتهى إلى فحص سايس، فأعجبه المحل فنزل هناك على عين ماء تطرد في مرج أخضر، فتوضأ وصلى الظهر هو وجماعة الذين معه، ثم دعا الله تعالى أن ييسر عليه مطلبه، ثم ركب وحده وأمر الجماعة أن ينتظروه حتى يعود إليهم، فنسب العين إليه من يومئذ ودعيت عين عمير، ثم أوغل في فحص سايس حتى انتهى إلى العيون التي ينبع منها وادي فاس، فرأى مياها تطرد في فسيح من الأرض وحول العيون التي شعراء من شجر الطرفاء والطخش والعرعار والكخ وغير ذلك، فشرب من الماء فاستطابه، ونظر إلى ما حوله من المزارع التي ليست على نهر سبو فأعجبته، فانحدر مع مسيل الوادي حتى انتهى إلى موضع مدينة فاس اليوم، فنظر فإذا ما بين الجبلين غيضة ملتفة الأشجار مطردة العيون والأنهار، وفي جانب منها خيام من شعر يسكنها قوم من زواغة يعرفون ببني الخير، وقوم من زناتة يعرفون ببني يرغش وكان بنو يرغش على دين المجوسية وبعضهم يهود وبعضهم نصارى.
وكان بنو الخير ينزلون بعدوة القرويين وبنو يرغش ينزلون بعدوة الأندلس، وكان قلما يفترون عن القتال لاختلاف أهوائهم وتباين أديانهم.
فرجع عمير إلى إدريس وأعلمه بما رأى من الغيضة وساكنيها وما وقع عليه اختياره فيها فجاء إدريس لينظر إلى البقعة فألفى بني الخير وبني يرغش يقتتلون فأصلح بينهم وأسلموا بعد ذلك على يده واشترى منه الغيضة بستة آلاف درهم، فرضوا بذلك ودفع لهم الثمن.
ثم ضرب أبنيته بكرادة وشرع في بناء المدينة فاختط عدوة الأندلس غرة ربيع الأول سنة 192.
وفي سنة ثلاث بعدها اختط عدوة القرويين وبنى مساكنه بها وانتقل إليها. وكان أولا أدار السور على عدوة الأندلس وبنى بها الجامع المعروف بجامع الأشياخ، وأقام فيه الخطبة، ثم انتقل ثانيا إلى عدوة القرويين كما قلنا ونزل بالموضوع المعروف بالمقرمدة وضرب فيه قيطونه وأخذ في بناء جامع الشرفاء وأقام فيه الخطبة أيضا، ثم شرع في بناء داره، ثم بنى القيسارية إلى جانب المسجد الجامع، وأدار الأسواق حوله وأمر الناس بالبناء وقال لهم: من بنى موضعا أو اغترسه قبل تمام السور فهو له.
فبنى الناس من ذلك شيئا كثيرا واغترسوا، ووفد عليه جماعة من الفرس من أرض العراق فأنزلهم بغيضته هناك كانت على العين المعروفة بعين علوان.
ثم أدار السور على عدوة القرويين وكانت من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء.
قال عبد الملك الوراق: كانت مدينة فاس في القديم بلدين لكل بلد منهما سور يحيط وأبواب تختص به، والنهر فاصل بينهما، وسميت إحدى العدوتين عدوة القرويين لنزول العرب الوافدين إليها من القيروان بها، وسميت الأخرى عدوة الأندلس لنزول العرب الوافدين من الأندلس بها.
وذكر ابن غالب في تاريخه أن إدريس لما فرع من بناء مدينة فاس وحضرت الجمعة الأولى صعد المنبر وخطب الناس ثم رفع يديه في آخر الخطبة فقال:
اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة، ولا مفاخرة، ولا رياء، ولا سمعة، ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها ويتلى بها كتابك وتقام بها حدودك وشرائع دينك، وسنة نبيك محمد ص ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عليه وأكفهم مؤونة أعدائهم وأدر عليهم الأرزاق وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنك على كل شئ قدير غزو إدريس المغربين أقام إدريس بفاس إلى سنة 197 ثم خرج غازيا بلاد المصامدة فانتهى إليها واستولى عليها ودخل مدينة نفيس ومدينة أغمات (1)، وفتح سائر بلاد المصامدة، وعاد إلى فاس فأقام بها إلى سنة 199. فخرج في المحرم لغزو قبائل نفزة من أهل المغرب الأوسط ومن بقي هناك على طريقة الخوارج من البربر، فسار حتى غلب عليهم ودخل مدينة تلمسان، فنظر في أحوالها وأصلح سورها وجامعها وصنع فيها منبرا. وبقي في تلمسان ثلاث سنين ثم رجع إلى مدينة فاس.
قال داود بن القاسم الجعفري: شهدت مع إدريس بن إدريس غزواته مع الخوارج الصفرية من البربر، فلقيناهم وهم ثلاثة أضعافنا فلما تقارب الجمعان نزل إدريس فتوضأ وصلى ركعتين ودعا الله تعالى ثم ركب فرسه وتقدم للقتال، قال: فقاتلناهم قتالا شديدا، فكان إدريس يضرب في هذا الجانب مرة، ويكر في هذا الجانب الآخر مرة، ولم يزل كذلك حتى ارتفع النهار، ثم رجع إلى رايته فوقف بإزائها والناس يقاتلون بين يديه، فطفقت أتأمله وأديم النظر إليه وهو تحت ظلال البنود يحرض الناس ويشجعهم، فأعجبني ما رأيت من ثباته وقوة جأشه: فالتفت نحوي وقال: يا داود ما لي أراك تديم النظر إلى؟. قلت: أيها الامام إنه قد أعجبني منك خصال لم أرها اليوم في غيرك.
قال وما هي؟. قلت: أولاها ما أراه من ثبات قلبك وطلاقة وجهك عند لقاء العدو. قال: ذاك ببركة جدنا ودعائه لنا وصلاته علينا، ووراثة من أبي علي بن أبي طالب الخبر.
وفاة إدريس قال ابن خلدون: انتظمت لإدريس بن إدريس كلمة البربر وزناتة ومحا دعوة الخوارج منهم واقتطع المغربين عن دعوة العباسيين من لدن السوس الأقصى إلى وادي شلف (2)، ودافع إبراهيم بن الأغلب عن حماه بعد ما ضايقه بالمكايد واستفساد الأولياء حتى قتلوا راشدا مولاه. وارتاب إدريس بالبربر فصالح ابن الأغلب وسكن من غربه وضرب السكة باسمه وعجز الأغالبة بعد ذلك عن مدافعة هؤلاء الأدارسة، ودافعوا خلفاء بني العباس بالمعاذير الباطلة. وصفا ملك المغرب لإدريس واستمر بدار ملكه من فاس ساكنا وادعا، مقتعدا أريكته، مجتنيا ثمرته إلى أن توفاه الله ثاني جمادى الآخرة سنة 213، وعمره نحو ست وثلاثين سنة، ودفن بمسجده بإزاء الحائط الشرقي منه. وقال آخرون: إنه توفي بمدينة وليلى ودفن إلى جنب أبيه.
ويقال عن سبب وفاته أنه أكل عنبا فشرق بحبة فمات لحينه، وخلف من

(1) نفيس من المدن المغربية التي انقرضت وأغمات بقيت قرية صغيرة.
(2) المقصود بالمغربين: المغرب الأقصى والمغرب الأوسط، أي ما يعرف اليوم بالمغرب والجزائر.
(٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370