في وضع يختلف عما هو عليه في الواقع، ومن هنا فان فكرة الجوهر اللامتناهي قد تتحقق عند أرسطاطاليس وإلى حد ما، في جو يقرب من المثل الأفلاطونية، على حين أن الكندي لم يلجأ إلى هذا التصور الجزئي المثالي، وأمن بعالم الأجسام المتناهية وارتباطها بالحركة والزمان والمكان...
ولكن كيف يوضح الكندي، في نظريته عن الله والعالم، أنه لا يمكن أن يكون جرم لا نهاية له. يبرهن على هذا بنصه: أنه إن أمكن أن يكون جرم لا نهاية له، فقد يمكن أن يتوهم منه جرم محدود الشكل متناه، وإذا توهم من الجرم اللامتناهي آخر محدودا، فقد يقال: هل هذا الجسم المحدود هو متناه أم لا متناه، فان كان هذا الجسم المحدود متناه فان الجملة ستكون متناهية، ذلك لأن الاعظام التي يعتبر كل واحد منها متناه تكون جملتها متناهية، ومن المستحيل، حسب برهنة الكندي، أن يكون الجرم لا متناهيا ومتناهيا.
لم يشن الكندي، حينما يقول بتناهي الجرم، أن يثبت في نظريته عن الله والعالم، كيف أن الله، وهو الفاعل الحق، وغاية كل علة، يستطيع وحده ايجاد الموجودات عن عدم. أنه المبدع الذي لا يتأثر بجنس من أجناس التأثر، أنه وهو الفاعل لا يقبل، كمخلوقاته، أن ينفعل بته. وقد يقرب الكندي، حينما يناقش طبيعة الفعل والانفعال، من الغزالي. يقول الكندي: أن الفاعل الحق الأول لا ينفعل بتة وأما ما دونه أعني جميع خلقه، فإنها تسمى فاعلات بالمجاز، لا بالحقيقة أعني انها كلها منفعلة بالحقيقة. وهو يقدر بهذا أن الفلك الأعلى هو المفعول الأول، وأنه باختلاف حركات ما فيه من إجرام متحركة على أنحاء معينة، يفعل فيما دونه، ويعتبر هذا الفلك مبدعا، أبدعه خالقه ومنشئه، أي أبدعه الله الذي هو العلة المباشرة أو غير المباشرة لكل ما يقع في الكون. يرى الكندي أن الأول ينفعل عن البارئ وينفعل عن هذا ثان، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى المنفعل الأخير منها. أن المنفعل الأول يسمى فاعلا بالمجاز للمنفعل عنه، لأنه علة انفعاله القريبة، وكذلك الثاني، إذ هو علة الثالث القريبة في انفعاله حتى ينتهي إلى آخر المفعولات. ويختم الكندي هذه البرهنة التي قد توهم بتأثير افلوطوني، والتي قد تبدو واضحة عند الفارابي فيما بعد، إلى أن الله، أي البارئ تعالى هو العلة الأولى لجميع المفعولات التي بتوسط، والتي بغير توسط، بالحقيقة، لأنه فاعل لا منفعل بتة، إلا أنه علة قريبة للمنفعل الأول، وعلة بتوسط لما بعد المنفعل الأول من مفعولاته.
ان الظواهر المحسوسة لتدل، كما يرى الكندي، أوضح دلالة على وجود هذا الفاعل الحق المدبر، هذا الموجود الذي لم يكتسب وجوده من شئ خارجي عنه، والذي يعده الكندي الواحد العي، والعلة الأولى التي لا تقبل التكثر بحال من الأحوال. أنه كما يقول في نصه: العلة الفاعلة التي لا فاعل لها، المتممة التي لا متمم لها، وانه هو الذي يجعل الأشياء تقبل العلل والأسباب. وقد رمزت الطبيعة في جميع الأشياء بان علة الكل واحد حق، هذا الواحد المحجوبة عنه الأعين الجثمانية، الذي هو تام وكامل، لا يلحقه النقص والانفصال بجهة من الجهات.
والكندي الذي يرى، في نظريته عن الله والعالم، أن الواحد الحق تام وكامل، يبرهن على أن الجرم وكل محمول فيه هو متناه، أنه يقبل الحركة والكم والمكان والزمان. والعلاقة كائنة عند الكندي بين الجرم، الذي يحده بأنه جوهر طويل عريض عميق، ذو ابعاد ثلاثة. مركب من هيولى وصورة، وبين الاعظام المتجانسة. يرى الكندي أن الاعظام المتجانسة التي كل واحد منها متناه في جملتها متناهية. أنه لا يمكن أن يكون جرم لا نهاية له أعظم من جرم لا نهاية له، على حين أن كل عظيمين متجانسين، ليس أحدهما أعظم من الآخر، متساويان. ويخلص الكندي من هذا إلى أن جرم الكل، أي العالم، ليس يمكن أن يكون لا نهاية له بل هو متناه.
وإذ يحاول الكندي إقامة الدليل على فكرة التناهي يقول: قد يظن أنه يمكن أن يكون جرم الكل كان ساكنا أولا وكان ممكنا أن يتحرك ثم تحرك، وهذا ظن كاذب بالضرورة، لأن جرم الكل، أي العالم، إن كان ساكنا أولا ثم تحرك، فلا يخلو أن يكون جرم الكل موجودا بعد عدم، أي كما جاء في نص الكندي، كونا عن ليس، أو يكون قديما. فان كونا عن ليس، فان وجوده قد اكتسب إذن الكون عن طريق الحركة، وإذا لم يسبق الجرم الكون كان الكون ذاته، فاذن لم يسبق كون الجرم الحركة بتة. وقد قيل أن جرم الكل كان أولا ولا حركة، وهذا ما لا يقبله الكندي، لأنه إن كان جرم الكل موجودا عن عدم، كونا عن ليس، فإنه ليس يمكن أن يسبق الحركة. وإذا كان الجرم لم يزل ساكنا، أي قديما، ثم تحرك لأنه كان ممكنا له أن يتحرك، فقد استحال إذن جرم الكل القديم من السكون بالفعل إلى الحركة بالفعل، والقديم، كما نعرف، لا يقبل أن ينعت بلفظه الاستحالة، فهو إذن مستحيل لا مستحيل، وهذا خلف لا يمكن. ويخلص الكندي من هذه البرهنة الأصيلة على أنه ليس يمكن أن يكون جرم الكل قديما أي لم يزل ساكنا بالفعل، ثم قبل أن يتحرك بالفعل، لأنه إذا كانت الحركة فيه موجودة، فهو لم يسبق الحركة بتة. ويختم الكندي هذه البرهنة في نص مشرق جميل: إن كانت حركة كان جرم اضطرارا، وإن كان جرم كانت حركة اضطرارا، فمدة الجرم اللازمة للجرم ابدا تعدها حركة الجرم اللازمة للجرم ابدا، فالجرم لا يسبق الزمان ابدا، فالجرم والحركة والزمان لا يسبق بعضها ابدا. وفكرة التناهي هذه في الجرم هي التي تميز نظرية الحدوث عند الكندي، بالأصالة، وتجعلها ذات طابع يختلف عن الفلسفة الايونية والطبيعية، وعن أستاذه أرسطاطاليس.
أن الجرم المتناهي الذي يقبل التبدل، عن طريق الحركة المكانية، بالقرب من مركزه أو البعد منه، يوصف عند الكندي بأنه مركب، لا يمكن تصوره منفصلا عن الحركة والزمان، لا يقبل الأزلية بحال من الأحوال، أنه محدث له خالقه ومحدثه. أن الجرم والحركة والزمان، كما يؤكد الكندي في كل نص ومناسبة، لا يسبق بعضها بعضا في الآنية، فهي معا، فإذا كان الجرم لا يسبق مدة تعدها الحركة، وإذا كان الزمان ذا نهاية بالفعل، فانية الجرم ذات نهاية بالفعل اضطرارا. ومن هنا فقد أثبتت نظرية الله والعالم عند الكندي، حدوث العالم، زواله ونهايته، كما إنها أكدت خلود الله المحدث، لا نهائيته وأبديته...
حينما يحاول أرسطاطاليس أن يناقش كما سيفعل الكندي في تصوره للعالم، مبحث الزمان، من حيث عنصر، جوهر، متحرك من نقطة بداية إلى نهاية، انه ينتسب إلى المقدار، حينما يحاول أن يفعل هذا فإنه يربطه، كما سيكون الحال عند الكندي، بالحركة التي تخضع للاتصال اننا نعرف الزمان حينما نحدد الحركة باستعمال لفظتي التقدم والتأخر، ولا نشير إلى هذا الزمان